كانت الكتب هي الوسيلة الأسرع لإيجاد المعلومة، تليها الوسيلة الأخرى وهي إيجاد مُعلِّم أو عالِم، وهذا أمر مقيّد بالزمان والمكان، إذ يتطلب البحث ثم التواصل ثم الانتقال لمكان تواجده، أو السفر إليه حيثما يكون، وفي حال موافقته على تعليمك ينبغي أن تتقيّد بالمواعيد التي يحددها لك.
لذلك كان الناس الذين يبحثون عن المعرفة مضطرين لقراءة الكتب، أو سؤال العلماء ومناقشتهم، وربما السفر لإيجاد معلّم متبحّر، فيجدون ضالتهم على درجة من العمق الذي تتطلبه الوسيلة نفسها ويحتاجه طالب المعرفة. ومع اختلاف البشر فإن في مقابل من يسعى للمعرفة هناك من لا يهتم بها من الأساس، بل ينشغل بضروريات الحياة اليومية وتحدياتها.
أما من لا يجد ضالته في الكتب أو عند العلماء المتخصصين فإنه غالبًا تكون لديه إمكانيات عقلية على درجة عالية، فيكرّس نفسه ووقته للإجابة على الأسئلة التي استعصت عليه بعد أن يمتلك الأدوات اللازمة، فيصبح هو بذاته مدرسة يقصدها طلبة العلم والمعرفة.
يُقال أننا اليوم مصابون بلعنة الوعي، ولكنه وعيٌ سطحي، ففي كل مجال تجد من تصدى للقشور، وكل أسئلتك تجد إجاباتها بضغطة زر. على الإنترنت؛ لا رحلة يأخذك فيها الكاتب ولا مسافة تقطعها أنت. المعلومة جاهزة يمكنك تناولها في لقمة واحدة. لكن من يُشبع حاجتنا للعمق؟
الناس، كل الناس، مليئة بالجروح ومليئة بالأسئلة، تخفي الكثير وتُظهر ما يظهره معظم الناس. لا أحد خالٍ من ألم أو ضعف أو جرح، الناس تريد الفهم، تريد المواساة، تريد الأمل، وتريد الحلم. وقبل كل شئ تحتاج إلى رحلة تقطعها حتى يمكنها الحصول على كل ذلك. نحتاج إلى أن نسمع حكايات تشبهنا، ومواقف تمر علينا كل يوم، أو في العمر مرة، لكن عندما تمر علينا نستطيع أن نطّلع على حكاية من سبقنا فيها. ولأننا مختلفون فنريد أن نسمع حكايات مختلفة. هذه القصص، التي تحكي الجرح، وتحكي الرفض، وتحكي حالات الضعف الإنساني على صعوبتها فإنها تداوينا شيئًا فشيء. ربما تعتقد أنني أقول كلامًا قرأتُه أو سمعتُه هنا أو هناك، لكنني أتكلم من واقع عشته.
قبل أيام كتبتُ في إحدى التدوينات قصة المدير الذي قرر الاستغناء عن خدماتي بدون سبب وبدون مواجهة، وكنتُ محرجة من ذكر القصة، إذ مر عليها أكثر من عام دون أن أستطيع إخبار أحد من غير المقربين، ثم وإذا بها فجأة تطفو على السطح، ولما قررتُ مشاركتها كنتُ آمل ألا يطلع عليها أحد، لكنني تشجعتُ ونشرتُها على أي حال. بعدها قرأتُ قصة تختلف في تفاصيلها عن قصتي لكن المضمون واحد، قال صاحبها أنه لم يخبر أحدًا عنها، لكنه شعر بالارتياح عندما كتبها في مدونته! والأمر العجيب أنني مع شعوري بالتعاطف العميق مع صاحبها إلا أنني شعرتُ بارتياح كذلك عندما قرأتُها، بل وبالتصالح مع قصتي أنا، إذ غادرني شعور الخجل، وأتى بدلاً منه شعور بأنهم هم من يجب أن يخجل لا نحن. وهذا ما جعلني أفكر في موضوع اليوم.
أتلهف أحيانًا لقراءة تدوينة أجد عنوانها يلامسني، فأتفاجأ بضحالة المضمون، وبدون قصة أتمسك بها، مثل الذي يعدني بشيء ثم يخلفُ وعده. العمق يعني المعنى، والجوهر، يعني نصًا حيًّا بتفاصيل مُعِينة، وأفكار متأملة، وبصيرة، يعني أن تبني جسرًا بيني وبينك قوامه الصدق والرغبة الحقيقية في رؤية ما وراء الظاهر، أن تسمح لي بالتأمل والتساؤل والاستكشاف، وأن تيسّر لي الوصول إلى الجوهر البسيط والتحرر من الغموض.
ربما لستُ من الباحثين عن المعرفة بالتعريف المتعارف عليه، لكنني أبحث عن المعرفة الإنسانية، عن عوالم تتقاطع مع عالمي، عن مشاعر عايشتُها لم تعجبني، أريد أن أعرف أنني لست السبب، وأن دوافع الناس مختلفة، وسلوكياتهم تعبر عنهم هم، وليس لها أدنى علاقة بي. فكل واحد مسؤول عن لغاليغو.*
ولا تنسوني من دعائكم في يوم عرفة، تقبل الله منا ومنكم أجمعين.
*كل واحد يخلي بالو من لغاليغو: عبارة شهيرة لعادل إمام مأخوذة من مسرحية مدرسة المشاغبين.

أضف تعليق