بتسأل أختها عنّو
عادة ما نجلس نحن البنات في غرفتنا المشتركة، بينما تلفون البيت في الصالة خارج الغرفة. أحيانًا أسمع والدتي تتحدث في الهاتف مع عمتها التي ربتها والتي تعتبر بمثابة والدتها. يدور الحديث حول ما فعلته إحداهن في يومها، وحول أحداث عائلية عامة أو خاصة، لا نسمع بإرادتنا لأن والدتي لا تحب ذلك، كما أنها تنهانا عن مقاطعتها أثناء الحديث، وحكاياتها العادية تلك تعود لتتداولها مع خالتي كذلك، وهكذا يدور الحديث في مثلث يمثلون زواياه الثلاث.
لم أكن أرى أهمية هذا النوع من التواصل حتى أصبحتُ أمارسه مع أختي. أحاديث يوميّة بسيطة عن ماذا فطرنا ثم كيف مرّ اليوم من لحظة حديثنا البارحة وحتى المكالمة التالية ظهر اليوم. أحداث العمل وقصص الأولاد والأفكار التي طافت برأسينا في لحظة إدراك أو لحظة صفاء أو لحظة غضب أو ضيق. هذه المكالمة البسيطة أشبه بتدوين اليوميات، أحيانًا نتحدث عن موضوع نعتقد أننا قتلناه تفكيرًا وبحثًا، ثم تظهر أمور أخرى لم ننتبه لها حتى لحظة الحديث؛ مع أختي.
بتسأل أختها عنه.. ايش به الليلة متغير
وردّت أختها حالاً.. متغير ومتحيّر
أظنه يا أختي من جدُّه.. يحبك حب ما بعدُه
قد تكون أخت، وقد تكون قريبة، وقد تكون صديقة، لكن الانسجام والتوافق وفهم الآخر مهم كي تتكوّن هذه العلاقة. هي ليست مجرد أحاديث وتفريغ ضغوط، ولو كانت كذلك لكفاها، لكنها فرصة للنمو وللتعلم ولمداواة الألم وشفاء الخدوش. هي فسحة تتنفس فيها بعض الهواء النقي بين مشاغل اليوم الكثيفة، وهي التي تنير لك الطريق الصحيح في أوقات المحن، وتكبح جماحك عن التصرف بحماقة أو غضب . تلك المكالمات هي بمثابة جلسات الطبيب النفسي التي تدفع في مقابلها ما لا يقل عن 100 دولار لأقل من ساعة، لكنها مجانية ومتبادلة بين طرفين يتشاركون فيها الأخذ والعطاء.
أطباء بلا حدود
“أطباء بلا حدود” هي منظمة تضم مجموعة من الأطباء الذين يمارسون مهنتهم في كل مكان في العالم، لا تعيقهم الحدود التي وضعتها الدول فيما بينها، أما ما أقصده هنا فهو أن الأطباء يقومون بخدمات بلا حدود، أطباء عائلتي على الأقل. فهم مستعدون للإجابة على أسئلتك واستفساراتك ببساطة يفهمها غير المتخصص، يطمئنوك، ويمتصّون قلقك، ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يبادرون بالاتصال والسؤال عنك أو عن والديك أو أولادك؛ وإن كانوا خارج الحدود. قبل مدة مرضت والدتي التي تظن أنها لا تقوم بأي عمل بينما هي لا تستطيع الراحة في غرفتها ساعة على بعضها، بل تظل تدور في المنزل لأجل هذا الأمر أو ذاك، أترجاها كي تحل ضيفة في بيتي عدة أيام فلا تقبل، تحمل هم سكان البيت، ونحن نحمل همّها. حتى أتى الطبيب ومازحها قائلاً أنها كوالدته لا تحب أن ترتاح ولا تقبل أن تغادر منزلها بضعة أيام للراحة أو التغيير. لانت والدتي قليلاً وقررت أن تقبل عرضي وتحل ضيفة معززة مكرّمة على بيتنا، ونحن في انتظارها شاكرين كرمها، وممتنين بلا حدود للأطباء الذين يساعدوننا بلا حدود.
تصدق ولا أحلفلك؟
بنات خالتي ليسوا بنات خالتي أنا فقط، وإنما بنات خالة ناس كثير. هم ليسوا كذلك لأنهم بنات خالتي، ولكن لأنهم هم هكذا، خلقهم الله سند لمن حولهم. قد تعتقد أن السند يجب أن تكون لديه إمكانيات هائلة، لكنني وجدتُ أن الأشياء لا تحدد إذا ما كنت مؤهلاً لأن تكون سندًا لأحدهم. بل ربما كانت الأشياء معيقة أكثر من كونها معينة. السند هو موقف، وقرار، وفعل. رب كلمةٍ قالت لصاحبها دعني، ورب كلمة وقفت في وجه إعصار. لا يمكنك أن تعتمد على الإمكانيات المادية للأشخاص، ولا على مكانتهم بالنسبة لك، هذه مجرد شكليات، لكن الاعتماد الحقيقي هو على معدن الشخص.
تصدق ولا أحلفلك؟ عجزت بلساني أوصفلك
نعيم الحب في وصلك، وإنت كريم أصلك.
بنات خالتي هم بنات خالة كثير من الناس، ليس لأنهم بنات خالتي، ولكن لأن معدنهم ذهب خالص.
غدّر الليل*
يقول أبو بكر سالم:
غدّر الليل والرحلة طويلة.. والحمولة على راسي ثقيلة
والسفر طال ما باليد حيلة.. من فراق المحب والبال حيران
فعلاً الرحلة طويلة في هذه الحياة، والحمولة ثقيلة على شخص واحد، لكن عندما يتساعد اثنان أو ثلاثة أو أربعة يخف الحمل، ومع الرفقة الطيبة يصبح السفر الطويل رحلة فيها مشقة بالتأكيد، لكنها مليئة كذلك باللحظات الثمينة والذكريات القيّمة.
*غدَّر الليل: أي جنّ الليل وأظلم.

أضف تعليق