العازفون

قالت في تدوينتها “هذا مو إنصاف منك ” :

“لطالما آمنت بالتقمّص.. أنّ لي حيوات أخرى مختلفة، وحيوات مأساوية أجهلها، لكن لم أظّن يوماً أن هذه الحياة هي إحداها. إحدى تلك النسخ المأساوية”

لا أدري متى وصلت إلى المرحلة التي شعرت أنني قنعت فيها بحياتي على ما هي عليه. لا أنكر مشروعية الأحلام المتفائلة، ولا أقلل من أهمية التحولات الدراماتيكية التي تحدث في حياة معظم الناس، لكنها غالبًا لا تحدث بالشكل الذي يتطلع إليه معظم المتفائلين.

أحيانًا أفكر في حيوات الآخرين، وقد حضرتُ قبل مدة عدة سهرات في أحد المقاهي الحديثة، قضيتُ وقتًا ممتعًا فيها مع إخوتي وبنات خالاتي، وكنتُ أفكر في المطرب الذي يحيي الحفل، هل هو سعيد في حياته؟

في المرة الأولى التي حضرتُ فيها إحدى تلك السهرات، رأيتُ شخصًا يقترب من المطرب ويسرّ له بحديثٍ لم نسمعه، لكنه كان يشير إلى شخصٍ ما يجلس في آخر القاعة وحوله مجموعة تظن أنهم أصدقاء، ثم يغني المطرب أغنيته التالية ويذكر اسم شخصٍ ما على أنه “رجل الأعمال الفلاني” مُرحّبًا ومُجامِلاً، وتتكرر المجاملة عدة مرات في الليلة، وما أن يقرر الشخص مغادرة المكان هو وجماعته إذا بأحدهم يتقدم الطاولات ويضع ظرفًا في جيب صاحبنا.

في كل السهرات التي حضرتها بعد ذلك كان المدعو “رجل الأعمال” حاضرًا هو وزمرته، لا ألوم أحدًا هنا، ففكرة أن يوضع في جيبك ظرف في آخر السهرة كأجرة إضافية غير متوقعة مقابل قول كلمتين لا يضر أحدًا. التفتُ إلى بنت خالتي التي ترى جاذبية في مثل هذا النوع من الأعمال، فقد كانت تلح عليّ في تكوين فرقة معها لنحيي الأفراح، فهي مهنة مربحة إذا ما فكرت في أن أقل أجر يمكن أن تكسبه المطربة المبتدئة يصل إلى ألفين أو ثلاثة آلاف ريال في الليلة الواحدة، وقد يصل المبلغ إلى 20 ألف ريال وأكثر، وأنا هنا أتحدث عن مطربات الأفراح ذوات الخبرة والشهرة المتوسطة.

المهم أنني التفتُ إليها وقلتُ لها هل ترضين أن تصبحي أسيرة لشخص مثل “رجل الأعمال الفلاني” ليملي عليكِ نوعية الأغاني التي يفضلها، ويفرض عليكِ مجاملته أمام الناس مقابل ظرف به بضعة آلاف؟

قالت أنها لا ترى بأسًا في الأمر لكنني قلتُ لها أنني أنا التي لن أسمح لها بذلك.

أن تكسب المال من عمل هو ليس عملاً لمعظم الناس، كأن تغني وتعزف ألحانًا تحبها طيلة الليل ثم تأخذ أجرًا مقابل ذلك، قد يكون حلمًا لكثير من الناس، وقد يفكر أحدهم: يا سلام ما أروع هذه الحياة، لكنني رغم حبي للطرب بدأتُ أشعر بالسأم عندما حضرتُ ثلاث سهرات لنفس الشخص، فما بالكم بمن يؤدي نفس الأغاني كل ليلة؟

لقد نشأتُ في بيئة متناقضة في نظرتها للموسيقى، فعائلتي لا ترى فيها بأسًا للترويح عن النفس وللتسلية وفي المناسبات السعيدة، لكن دون الاشتغال بها لأنها ليست من العلم النافع، أما المجتمع الأكبر خارج نطاق العائلة فيرى الأغاني حرام، مع أن غير المتدينين من الشعب وهم يمثلون النسبة العظمى لا يتجنبون سماعها.  سألتُ أختي التي بحثت الأمر بالتفصيل وكتبت ما توصلت إليه في مقالة منشورة على نشرة سياق وعلى حسابها بتويتر، وأقتبس منها هذه الجزئية: ” فإذا ضبطنا الإطار العام الذي جُعلت فيه الموسيقى وما يتصل بها من كلمات مغنّاة، بحيث كان إطارًا لا فحش فيه ولا فساد، وكان هذا الفن له رتبته في سلّم الأولويات عند المسلم بحيث لا يعطّله عن واجب يتعلق بعباداته أو صلاح أمره أو علاقاته، ولا يكون وسيلة إلى محرّم نفسي أو سلوكي أو اجتماعي،  فإن ذلك كله يكون محققًا لمصلحة لها اعتبارها شرعًا، وتكون هذه المصلحة وسيلة لجلاء القلب والعقل.”

ومع ذلك فإنني أجد بداخلي حرجًا من هذا الأمر، ليس السماع وإنما الاشتغال، ولا يساعد في ذلك بيئة المشتغلين بها اليوم، صغارًا كانوا أم كبار، فقبل مدة شاهدتُ حفلاً ضم الكثير من الفنانين، ومن بينهم فنانة صغيرة في السن ومحجبة، أثار ظهورها في موضع مثل هذا قلقي، ودعوت الله أن يحفظها.  كما شاهدتُ ذات يوم فيديو ضايقني لأسباب تتعلق بقناعاتي الشخصية، إذ يقول الضيف -وهو شخصية شهيرة- أن أم كلثوم هي سفيرة الفساد، فقد ارتبطت حفلاتها بالبيرة والحشيش وما إلى ذلك.

ربما تكون المكانة والشهرة والأضواء مثيرة ومغرية، لكنك تدرك عاجلا أم آجل أن من يدخل هذا الوسط غالبًا سيواجه مفاجآت لم يتوقعها ولا يستطيع التحكم بها.

لطالما ساعدتني الأغاني في تبديل أحوالي، وفي تغذية إحساسي بالجمال، وفي ترقيق قلبي وتعزيز مبادئي وإشعال أفكاري، ولطالما أرجو ألا أكون من المشتغلين بها في غير طاعة، وأن أوظفها بحيث تضيف معنى إلى متلقيها عبر البودكاست والمدونة والأشياء الأخرى التي أعمل عليها، لعلها تذهب الأحزان، أو تشعل الأفهام، أو تشرح الصدور أو تجلي الكدر.

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑