أبطال من لحم ودم

قرأت مقالة بدأت بهذه العبارة: “كل ثقافة تُنتج أبطالًا يعكسون أعمق مخاوفها. الإغريق، الذين خافوا من الموت والخلود معًا، أهدونا أخيل. والفيكتوريون، المهووسون بالطبقية والحراك الاجتماعي، أهدونا نموذج الرجل العصامي. ووادي السيليكون، الذي أغراه النمو المتسارع للشركات التقنية، وانبهر بجولات التمويل التي لا تنتهي، أهدانا “المطور البطل”: تلك الشخصية التي تُطلق ميزات جديدة لمنتجاتها في منتصف الليل، وتُحوّل خربشات السبورة إلى مشاريع بمليارات الدولارات”.

فكرت بأبطال المسلسلات التركية، إذ تغلب عليهم سمات مثل الشهامة والرجولة لكنها لا تخلو من العنف الضروري من وجهة نظرهم لمجابهة الظالمين، ثم عادت بي أفكاري للأبطال في حياتي، فاستبدل العنف بالحنية والرحمة، وغمرني إحساس بالأمان والحب والهيبة في نفس الوقت. ووجدتُ أنني في تربيتي لأبنائي كنتُ أسعى كي أنتِج منهم أبطالاً مستقبليين.

في بعض الأشخاص، تظهر سمات البطولة لديهم مبكرًا، في تصرفات بسيطة وقرارات غير مؤثرة، في اللعب مع أطفال الحارة، أو في العلاقات مع الإخوة وزملاء المدرسة، أو في الصراعات مع أبناء الجيران. إذ أن هناك سمات شخصية أساسية في تكوين البطل، وهذه السمات قد تكون أصلية يولد بها، لكن يمكن اكتسابها، فالحلم بالتحلم كما قال صلى الله عليه وسلم، إلا أن هناك استجابة الشخص نفسه لما تحاول تعليمه إياه، والتي تختلف حتى بين التوائم المتشابهة، ثم تأتي الخيارات الشخصية التي تؤثر عليها الظروف والموقف والحالة النفسية، وهذا يعني أنك مهما أردت لأبنائك أن يكونوا أبطالاً فإنك لا تستطيع التحكم في عملية البناء تحكمًا كاملا.

كانت هناك سلسلة إعلانات لمشروب بيرة شهير بعنوان “استرجل”، رغم أن الإعلانات كانت كوميدية إلا أنني أحب هذه الكلمة التي أصبح الناس يتحسسون من استخدامها مع موجة لا للتنمر وصدمات الطفولة وجرح الوالدين، وتذكرتُ أنني لم أستخدم كلمة “تمرجل” منذ وقت طويل عندما اضطررتُ لاستخدامها قبل أيام.  وكنتُ فخورة باستخدامي لها في ذلك الموضع لأنها كانت تقتل فكرة قبل أن تكتمل، فكرة أفرزتها لنا الشبكات الاجتماعية التي جعلت تصدر المشهد متاحًا لمن له وزن وقيمة، ولمن ليس له أي اعتبار على حد سواء.

في حلقة بناء القوة النفسية من بودكاست بدون ورق، يقول الدكتور خالد الجابر  أن الخطاب النفسي يجب ألا يوجه للمؤذي، بل من الأفضل أن يوجه لمن تلقى الأذى كي يغيّر طريقته في التعامل مع الأذى، ذلك الذي يتأذى من الكلمة الطائرة والتعليق الجارح (وفلان عزمني فلان ما عزمني، فلان اهتم فيني أو ما اهتم فيني)، فالخطاب الذي يجعل لك الحق في أن يهتم الناس بك أدى إلى الاستحقاقية ورفع سقف المطالبات، وظهر جيل لا يستطيع تحمّل نسمة الهواء، لكن الحياة ليست كذلك”.

على أن كل بطل لديه نقاط ضعف ولديه عيوب، وهذا مطمئن، لأنني وأبنائي وكل بطل على هذه الأرض لا يخلو من العيوب. وربما توحي لك العبارة السابقة أنني صنّفتُ نفسي وأبنائي من الأبطال، لكن القصد لم يكن كذلك، ثم بعد أن فكرتُ فيها مليّاً قررتُ أنني لا أريد تغييرها، فأنا أقدّر الشجاعة خاصة في التصرفات التلقائية، أو التي لا يكون لديك فيها سوى ثوانٍ قليلة لتقرر كيف ستتصرف. ما أسهل التصرف برد الفعل الأوليّ، لكن التوقف لحظة لضبط النفس واتخاذ القرار بالتصرف الأصوب يعني أنك حصدت ثمار جهودك في تحسين نفسك.

أعتقد أن هناك ثلاثة معايير للفعل البطولي، وتتمثل في:

  1. الحس الأخلاقي أو الدافع: لماذا يفعل ما يفعله؟ وما هي دوافع أفعاله؟ الدوافع الطيبة مثل الرغبة في المساعدة أو الإصلاح أو لمّ الشمل أو أداء الحق أو نصرة المظلوم أو ردع الظالم أو جبر الخواطر تظهر عاجلاً أم آجل، وكذلك الدوافع الأخرى مثل الحصول على مصلحة شخصية كأن تنتظر رد الجميل أو تكسب من ورائه مالاً أو منصب أو جاه، مهما كانت دوافعك فإنها تظهر في النهاية، وهنا يتفوّق المبدأ النبيل على المصلحة الشخصية.
  2. نوع الفعل وأثره: ماذا فعل؟ وما الأثر الذي أحدثه فعليًا في حياة الآخرين. هل نصر مظلومًا؟ أو أعان صانعًا أو علّم جاهلاً أو قضى حاجة أو دين، أو أصلح بين اثنين، أو بنى مهدومًا أو رمّم صدعًا أو جبر كسرًا. في الحديث الشريف في باب الصدقة نجد أفعالاً قد لا تخطر على البال لكن أثرها عظيم في الأجر وفي نفوس البشر.
  3. الثمن الذي دُفِع: ما هي تكلفة الفعل؟ وماذا خسر في سبيله؟ مال أو وقت أو راحة أو أمان أو سمعة؟ كل فعل له ثمن، ولأن الكثير من الناس يستخسرون دفع ثمن شيء هم غير ملزمين به فإن من يكون مستعدًا لتحمل الغرم هو أحقهم بالأفضلية. المشكلة أن الناس تنسى أن عدم الفعل كذلك له ثمن يُدفع لاحقًا، وأحيانًا تكون الخسارة اللاحقة فادحة ويصعب تعويضها.

إذا لم تكن موجودًا وقت الحاجة، ولم تتحقق المعايير السابقة في أفعالك بشكل متكرر وفي مواقف وسياقات مختلفة، في نفس دائرة التأثير فإن البطولة صعبة قوية.

وعبارة نفس دائرة التأثير تعني أن البطل في الأسرة قد لا يكون بطلاً في مجالات أخرى مثل العمل أو المجال الرياضي أو السياسي.

أعمق مخاوفي ألا أكون على قدر المسؤولية، أن يفترق شملنا، أو أن نخسر الروح التي تميزنا، لذلك من الطبيعي أن تكون أمي هي البطل في نظري، بل هي أحد أهم الأبطال في حياتي.  هناك أبطال آخرون كذلك، ربما تكونون قرأتم أو سمعتم عنهم هنا في المدونة أو البودكاست، لكنني لم أذكر والدتي إلا في أوقات قليلة مؤخرًا، كانت تحركها القيم والمبادئ ونكران الذات في سبيل من حولها، وكنتُ أنكر منها تلك الصفة الأخيرة، لكنني عرفتُها عن قرب قبل أن ترحل، وفهمتُ أنها تفهم الآخرين وتتفهمهم، لا تنظر إلى عيوبهم، بل إلى إنسانيتهم، ومن الفهم تأتي الرحمة والتأني والصبر، أما الجهل فيجلب معه القسوة والإقصاء والتخلي.

عندما رحلت والدتي رأيتُ أنه من البر وصل من كانت تصلهم، وكم كانت تلك الفكرة ثقيلة عليّ، لأنني أعرف قدراتي أولاً، وثانيًا لأنني مهما فعلت فلن أكون لهم مثلها. وهذا قادني إلى فكرة أخرى، هي لها ناسها، وأنا لي ناسي.

حبة حبة، ومرة بعد مرة، بأفعال ثابتة ومتكررة، ندفع ثمنها لكننا بها نكسب القلوب، ونقرّب البعيد، ونؤدي حق الود والمحبة وحسن العِشرة.

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑