أشيائي العزيزة

في الإجازة الصيفية بعد إتمامي الصف الأول الابتدائي كنتُ أشعر بالملل، فرشحت لي أختي الكبرى إحدى ألغاز المغامرين الخمسة، لا أتذكر اسم اللغز، لكنني ولدهشتي استمتعتُ بقراءته جدا، وعدتُ إليها أطلب المزيد، ومن هنا بدأت علاقتي بالقراءة التي كانت ببساطة، تجعلني أعرف. كنت أتمنى لو أنني أسكن بالمعادي في القاهرة، لأعيش بعض المغامرات التي يعيشها تختخ ونوسة ولوزة ومحب وعاطف. وبعد أن أصبحتُ في المرحلة المتوسطة بدأتُ أقرأ روايات أجاثا كريستي، وعبد الحميد جودة السحار وعلي أحمد باكثير، وروايات مصرية للجيب، ومنها سلسلة رجل المستحيل وملف المستقبل، وفلاش بالطبع. لم يكن والدي يسمح لنا بقراءة كتب نجيب محفوظ لأنها تحتوي على بعض المقاطع الخادشة، فلم تكن نتفليكس موجودة طبعًا. كنا نذهب يوم الخميس إلى مكتبة المأمون التي تقع في الدور الثاني في مركز الكورنيش التجاري. إذ كانت تتوفر فيها الأعداد الجديدة باستمرار، فنشتري منها ما يسمح به مصروفنا. كانت القراءة تأخذني لعالم آخر، لقصص وروايات مبهجة وسعيدة وأحيانا غامضة ومثيرة، بها أزور أماكن وأزمنة مختلفة، وأتعلم الكثير مما لم أكن لأعرفه إلا من القراءة. وقتها لم يكن هناك كثير من وسائل الترفيه، وأتساءل ما الذي كانت تفعله بنات جيلي اللاتي لا تقرأن، كما كن يتساءلن بدورهن ما الذي يعجبني في القراءة؟

في رمضان قبل الماضي كنت خارجة من دورة مياه أحد المولات، وكانت إعلانات الجزء الرابع من مسلسل لاكاسا دي بابل منتشرة في المول وفي الشوارع، فسمعتُ أحد الأولاد يغني أغنيتهم الشهيرة بينما كان ينتظر والدته أمام باب دورات المياه، فقلت له انت صغير كيف تتفرج على دا المسلسل؟ قال وهو يبتسم بدهاء: ليه ما تعرفي شي اسمه سكب (skip)؟ ابتسمتُ له بعتب وقلت ياسلام. ومشيت وأنا أتفكر في التحديات التي تواجه أمهات اليوم في تربية أطفالهن.

لما كنت حامل، لم أعرف جنس المولود إلى ساعة الولادة، شعرت أنني لا أريد أن أعرف، مع معارضة واستنكار من كل من حولي. حينها طلبتُ من والدتي أن تخيط للطفل ملابس بيضاء محايدة، ووجدت تصاميم مشابهة للموديلات القديمة التي كنا نرتديها أنا وإخوتي عند ولادتنا في صور حديثة على بنتريست. خاطت مشكورة عدة قطع وزينتها بالكشاكش والشرائط الملونة، أعطتها لي مع قطع أخرى كانت محتفظة بها منذ كنا أطفالاً رضع. ثياب طويلة ناصعة البياض بأقمشة قطنية لطيفة ارتدتها طفلتي الصغيرة بهناء.

الصورة من موقع بنتريست.

موضة التخفف تناسبني، أحيانا أتذكر بعضًا من أشيائي التي ندمت على التخلص منها، والتي عندما تخلصتُ منها كنت موقنة أن دورها معي قد انتهى. وتعلقي بها ليس لأجل التملك، إنما لأجل ما تحمله من ذكريات وقصص ومعان محببة. أما ابنتي فهي لا تتخلص من أشيائها بسهولة، فكل شيء قد تحتاجه يومًا ما، ويبدو أنها ورثت هذه الصفة من والدتي التي أنا ممتنة لها لأنها لا زالت تحتفظ ببعض الأشياء العزيزة التي لم نعرف قيمتها في وقتها. 

لا أحب كيف يتخلى الناس عما عرفوه وانتموا إليه فقط ليجاروا الأجيال الجديدة. من جهة أخرى لا أقول أن أشياء زمان أفضل، لكن المعايير وطبيعة الوقت مختلفة. كنت قد قرأت أن عبد الحليم حافظ عندما غنى أغنية “صافيني مرة” لأول مرة بمدينة الإسكندرية لم يستقبلها الجمهور بالترحاب، لأنه لم يتأقلم مع اللون الجديد للحن، بينما نعتبر نحن عبد الحليم اليوم من مطربي الفن الأصيل. 

أيام مراهقتي كانت قناة mbc fm على الراديو هي المصدر  الأول للأغاني الجديدة، وعندما سمعت أغنية رهيب لأول مرة أحببت اللحن، لكني كنت أرى أن الكلمات ركيكة وبدون معنى يضيف إلي مقارنة بأغاني عبد المجيد الأقدم.  تعرفتُ من خلال الراديو على أصيل أبو بكر وعاصرتُ انطلاق أولى أغانيه، وكانت أغنية علميهم يا الحبيبة لراشد الماجد من الأغاني المفضلة عندي. كما فُتنت بصوت عبد الرب إدريس لما سمعتُ أغنية ليلة، فالراديو يجعلنا نلتقط الأصوات النقية والجميلة ونميز الأغاني الجيدة بدون أن تؤثر الصورة على تقييمنا.

ليلة- عبد الرب إدريس

من دواعي سعادتي أن تحظى أشيائي العزيزة بالنجاح والرواج الذي تستحقه. إذ أحب أن يحب أولادي ما أحب، لكنهم للأسف لا يستمتعون بها كما أستمتع. أتناول الكورن فليكس مع الحليب الساخن، ويفضلونه باردًا. وأفضل الأغاني العربية ويفضلون الأجنبية. حاولت قبل مدة طويلة أن أجعلهم يتابعون إفتح يا سمسم، فلم يروا فيه ما أرى، ثم رشحتُ لهم بعض المسلسلات المصرية القديمة، فلم يحبوها، ثم روايات أجاثا كريستي وألغاز المغامرين الخمسة فلم يستطيعوا قراءتها. ثم أغاني فترة التسعينات، ولا بأس، استمعوا لبعضها، وأحبوا قلة منها. وأجد في ذلك بعض العزاء.

يا واد يا اسكندراني- مصطفى قمر.

في مدونة خديجة، كتبت ابنتي:” في إحدى المرات تحمست والدتي لتشغيل أغنية لمحمد عبدو، كانت واثقة أنها ستعجبنا” وبعبارة أخرى كانت ابنتي واثقة أنها لن تعجبها، بينما قد جعلتني أترنم بأب تاون فنك، وأدندن مع أغنية إت وازنت مي، وأحفظ ألبوم هيستوري لون دايركشن. ما علينا، المهم قبل أيام أحبت خديجة أن تدخل بعض المتعة على أختها الصغيرة، وهي بالمناسبة تكبرها بأكثر من عشرين سنة، فشغلت لها أغنية بابا فين على اليوتيوب، وكم كانت خيبتها عندما لم تُلق زينة بالاً للأغنية، حينها قالت باستنكار شديد: أنا مستغربة كيف ما عجبتها! لم أعلق لكنني قلتُ في نفسي بنبرة انتصار شريرة: الدنيا سلف ودين.

مرة كنت وأبنائي ذاهبين لبيت والدتي، وكنت في لحظة ما غاضبة بشدة، لا أجد سببًا لغضبي إلا أنني كنت حامل، المهم كنت غاضبة وأوبخ أحد الأولاد عندما سمعتُ نغمة موسيقية محببة ظهرت ضمن قائمة التشغيل على تطبيق أنغامي، ولأن ابنتي لم تسمعها من قبل فقد ظنت أن من الأفضل تجاوزها، بمجرد سماعي للنغمة توقفت عن التوبيخ وطلبتُ من ابنتي إرجاع الأغنية، فكأنها سكبت على رأسي ماء بارد، هدأت وارتفع مؤشر المزاج لأعلى نقطة وأخذت أغني مع المطرب بكل الروقان الذي في العالم.

https://www.youtube.com/watch?v=HbyCmVlS2o8

يا نار شبي- محمد البلوشي.

تأملات في فكرة الأشياء العزيزة:

  • الأشياء العزيزة هي أشياء مادية تحمل في طياتها قيمة معنوية لأصحابها، قد تحمل ذكرى خاصة تشعرنا بالحنين للماضي، أو ترتبط بذاكرة شعب بأكمله. قد تصادف فترة حياتية ما، وقد تكون هدية من شخص عزيز على قلوبنا. هي أشياء ارتبطنا عاطفيًا معها، وارتبطت بنا بشكل ما. هي أشياء تذكرنا بما كنا عليه عندما رافقتنا، مما يجعلها كذاكرة خارجية تعمل جنبا إلى جنب مع  ذاكرة أدمغتنا لاسترجاع الوقت والمكان والأحاسيس التي عشناها معًا.
  • أحيانًا نحب أن يشاركنا الكل فيها، وأحياناً مشاركة أشيائنا العزيزة مع الآخرين تفسدها علينا. الأشياء التي شاركتنا رحلة ما، رحلة مشوبة بالتعب والتحديات والدروس الصعبة. الأشياء التي دفعنا ثمنًا غاليًا حتى وصلنا إليها، لا نود أن نجدها في يد من لم يعرف قيمتها. لا نحب أن تكون مشاعة للجميع، بل نحتفظ بها سرًا لنا وحدنا.
  • في فترة من حياتي كانت أشعار خالد الفيصل وبدر بن عبد المحسن وخلف بن هذال العتيبي تكتسح الساحة، فنطرب لسماعها من أصحابها كما نطرب لسماع بعضها بأصوات مطربينا المفضلين. اليوم عندما أتفكر في بعض أشعار خالد الفيصل المغناة، اجد أن التشاؤم يخيم على معانيها، فعذبات الأيام ما تمدي لياليها، وعادة زماني كل ما طاب هوّن. لا تناسبني هذه النبرة، وأفضل النظرة المشرقة للأمور بغض النظر عن واقعيتها.
  • أحب أن تحظى أشيائي العزيزة بحياة ثانية، ومفهوم الحياة الثانية قرأته لأول مرة في مدونة لايت أند باترن، ويطلق على الفرصة التي تتاح لأي منتج ضمن تصنيف ما، ومع مرور الوقت اختلف هذا التصنيف بشكلٍ جذري، وبات يشكل معنىً آخر مختلف تمامًا عن معناه الأصلي. اليوم نلاحظ أن هناك موجة اهتمام بفن طلال مداح وعبادي الجوهر، رغم أن فنهما يصنف كفن كلاسيكي عريق. تقول فاطمة في مدونتها أن موسيقى طلال وعبادي خرجت من عباءة الكلاسيكية، وصارت جزءًا من الحياة اليومية لشريحة غالبة، ولم تعد متعارضة مع جدة الحياة المعاصرة، ولا دليلا على ميل مستمعها بشكل حصري إلى الغناء القديم. فن عبادي الجوهر حصل على “حياة ثانية” خلال السنوات الأخيرة، وتفسيرها للبعد الثقافي والاجتماعي لهذه الحياة يتضمن حاجة الجمهور شبه الواعية إلى جذور للهوية الاجتماعية الخليجية في عالم تبدو فيه السطحية هي الغالبة.
  • فرقة ميامي هي أيقونة المناسبات السعيدة. صالحة لكل زمان ومكان منذ أن أصدروا ألبومهم الأول عام 1991م. يدعونا مشعل وخالد وطارق في أغانيهم للفرح والبهجة والتمايل مع إيقاعاتهم الراقصة ونسيان كل الهموم. ومع إعادة إنتاج بعض الأغاني التراثية بأسلوبهم المميز، أصبحت أغانيهم الأصلية تراثنا وحاضرنا، لابد أن تشاركنا أفراحنا  وتشعل أجواءها بالبهجة والحماس، في حفلات التخرج وأعياد الميلاد وكل المناسبات السعيدة بلا استثناء. أغاني ميامي من أشيائي العزيزة التي أحب أن تكون مشاعة لجميع الناس.

خرجتُ وابنتاي مرة في نزهة بالسيارة، طوال الطريق كانت الأغاني الأجنبية هي المسيطرة، مع بعض الأغاني المصرية التي تفتحها ابنتي حرصًا منها على أن تكون ديموقراطية في اختياراتها. وقرب انتهاء نزهتنا شعرتُ بالسأم، وقلت ربما من الأفضل ألا نخرج من البيت هذه الأيام، ثم طلبتُ منها تشغيل أغنية خطرت ببالي وقتها. وبمجرد أن بدأت موسيقاها تعزف حتى أخذتني لزمن بعيد أحمل له ذكريات جميلة، لم يعد يهمني الوقت، ولا الطفلة الصغيرة النائمة بجواري، فقط أغني مع الأغنية وأبتسم بسعادة. ذلك هو ما تفعله أشياؤنا العزيزة.

مغرم يا ليل- راغب علامة.

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑