على شط اسكندرية

كنا في أواخر الشتاء قبل اللي فات. لا في وسطه، مثل هذه الأيام تقريبًا عندما ذهبنا إلى مدينة الإسكندرية قادمين من القاهرة. فقد حجزنا طائرة الذهاب من جدة للقاهرة، والعودة من الإسكندرية، لذا لم تكن هناك فرصة لتجاهل الأمر والتكاسل، هنروح اسكندرية يعني هنروح. مرض محمد ابني الأكبر أثناء مكوثنا في القاهرة، ألم شديد في معدته مصحوبًا بكل أعراض النزلة المعوية عافانا الله وإياكم من كل مكروه. ذهبتُ لمحطة رمسيس لشراء تذاكر القطار لنا نحن الخمسة، وكانت تكلفة رحلة الذهاب على الدرجة الأولى 500 جنيه مصري، إي ما يعادل 100 ريال سعودي لنا جميعًا.

في اليوم التالي غادرنا الفندق متجهين إلى المحطة. ازدحام شديد أثار ذعر ابنتي التي ضيعتنا في الساحة الكبيرة قبل دخول المحطة، إذ يبدو أن قصص النشالين في مغامرات تختخ ونوسة وعاطف ولوزة سيطرت على تفكيرها أثناء زيارتنا لمصر. المهم أننا اجتمعنا بعد ذلك في الساحة الداخلية للمحطة بانتظار قطارنا.

في الدور العلوي للمحطة كانت تقع دورات المياه، مع بعض المطاعم. جلسنا في أحدها وتناولنا وجبة خفيفة لا أتذكر مكوناتها، ونهضنا عندما سمعنا النداء الأول لقطار الساعة الثالثة.

كانت المقصورة التي ركبنا فيها فسيحة وغير ممتلئة، والنوافذ كبيرة من الجانبين، ويأتي كل فترة وأخرى بائع من مقهى القطار يعرض بعض المشروبات. كنتُ مرهقة وخائفة من مرض محمد، رغم أنني أعرف أنه من الطبيعي أن يصاب من يزور مصر للمرة الأولى بتلبك معوي وأظن الأمر عائد لاختلاف البيئة، فالبكتيريا والفطريات التي تعيش في بيئة صحراوية مثل بيئتنا تختلف عن تلك التي تعيش في بيئة نهرية، ولذلك نصاب بالمرض حين يتعرض جسمنا لبكتيريا جديدة عليه. وهذا التفسير من رأسي تمامًا ولم أقرأ أي معلومة من أي مصدر تشير إلى مثل هذا الرأي، فإذا وجدتم رأيًا موثوقًا أفيدوني به مشكورين.

كنت أجلس بجوار محمد الذي قرر أنه لا يريد فتح الستائر، لكنني كنتُ أسترق النظر بين الفينة والأخرى من النافذة التي تقع على يساري، أو من تلك التي تقع في الأمام. وما أذهلني هو أن كل بقعة من الطريق كانت مأهولة، أما بالناس أو حيوانات المزرعة كالبقر والجاموس والحمير، أو الأراضي الخضراء المقسمة في مربعات تتفاوت درجات ألوانها المنعشة. كل بقعة فعليًا، بعكس بلادنا التي ترى الصحراء فيها على مد البصر فور مغادرة المدينة.

بعد ساعتين تقريبًا وصلنا محطة سيدي جابر، وخرج الجميع من القطار ينتشرون في الأرض، لمحنا سائق سيارة أجرة وأصر على أخذنا في سيارته، رغم محاولات التملص منه لكنه كان مصرًا ووجدته مستعدًا لأخذنا وحقائبنا في سيارته الصغيرة التي كفتنا وأنا متعجبة، إذ كنتُ أخطط لأن نستقل سيارتي أجرة، لكن سائق التاكسي الذي لا أذكر اسمه أخذ المخاطرة ووضع الحقائب فوق السيارة وأصر على أن نُحشر نحن الخمسة بداخلها.

وصلنا إلى وجهتنا على أذان المغرب، وصعدنا إلى الشقة التي استأجرتها من موقع بوكينج، وكانت ولله الحمد مثل الصور تمامًا، نظيفة وواسعة جدًا وشرفتها تطل على البحر المتوسط. بالمناسبة لقد أحببتُ البحر الأبيض المتوسط، أحسستُ أنه مرتاح، والأمواج تأتي وتذهب وهي حرة ومنطلقة، بينما أشعر أن البحر الأحمر وكأنه محشور في جورب ضيق، حركته ثقيلة ومقننة، وكل ذلك بسبب شكله على الخريطة لا أكثر.

في أول ليلة لم نكن ننوي الخروج، لكنني خرجتُ وابنتي لنحضر خبزًا وجبن وبعض المشروبات من البقالة. نزلنا بالمصعد وسألنا موظف الاستقبال في البناية عن أقرب بقالة، وصف لنا الطريق وذهبنا سيرًا على الأقدام. اشترينا ما أتينا لشرائه مع بعض التلكؤ، فأشكال العصائر والحليب وبعض الشيبسات والشوكولاتة مختلفة عما تعودنا على رؤيته هنا. اقترحتُ على ابنتي الذهاب لكافيه يقع في الطريق الرئيسي المواجه للبحر ويبعد عن بنايتنا مسافة معقولة، جلسنا وطلبنا مشروبًا دافئًا، نشرب ونشاهد السيارات التي تسير مسرعة من واجهة المقهى الزجاجية. تذكرتُ حينها أيام السبت في جدة، والتي تصنف كيوم خاص لنا. انتعشنا بالهروب الصغير، وقفلنا عائدين، رأيتُ في طريقي مطعم جاد فقررتُ أن أطلب منه عشاءنا لهذه الليلة.  

مع أذان الفجر، استيقظتُ من النوم وأنا أكاد أتجمد بردًا. وقررتُ أنني سأترك الشقة وسأستأجر في مكان آخر، كنت أظن الكهرباء مقطوعة لكن ما حدث كان خللًا بسيطًا في علبة الكهرباء، أرسلتُ رسالة لصاحب الشقة أخبره بانقطاع الكهرباء، فأرسل عاملته المنزلية التي أصلحت الخلل في ثوانٍ وأحضرت معها مدفأة كهربائية إضافية، شغلتها في الصالة الواسعة فأدفأت الشقة بعد أن كدنا نتجمد بداخلها أحياء.

قررتُ مع الأولاد تناول الإفطار في كوستا كافيه الذي يقع في البناية المجاورة تمامًا. كانت جلسة لطيفة تناولنا الإفطار وشربنا الشاي الساخن، ونحن نتحدث عن هذه المدينة الجميلة وعن خططنا لقضاء اليوم. خرجنا لنستمتع برؤية البحر مباشرة من كوبري ستانلي، وأخذنا بعض الصور التذكارية. قلتُ لهم أنني سأجرب ركوب المشروع (الباص الصغير) كما يسميه أهل اسكندرية وسأذهب لمحطة الرمل، فقد سألتُ أحد المارة عن مكان توفر ألغاز المغامرين الخمسة فقال أنه لا يعرفهم وهذا ما أثار تعجبي فعلاً، فكل الناس في الدول العربية تعرف المغامرين الخمسة، لكنه أخبرني أنه توجد بسطات كثيرة للكتب القديم منها والجديد في محطة الرمل، أما الأولاد فسيذهبون بالباص إلى مدينة الملاهي بالمعمورة، بحيث يتجهون إلى اليسار وأتجه أنا إلى اليمين. ترددوا خوفًا من ركوب الباص والنشالين والاستيقاظ في بقعة مهجورة 🙂 لكنني شجعتهم على خوض تجربة جديدة ورخيصة. تأكدت من ركوبهم الحافلة الصحيحة، وصعدتُ أنا إلى أحد “المشاريع”، وسألتُ التي بجانبي عن كيف أعرف أنني وصلت وكيف أطلب من السائق النزول وكيف أعطيه الأجرة؟ أجابتني فبقيتُ متيقظة كي لا يفوتني مكان النزول، ومرت التجربة بسلام لكنني نسيت الطريقة وسأضطر للسؤال عنها عندما أذهب هناك في المرة القادمة.

وبينما أنا أسأل كل تلك الأسئلة، كانت ابنتي مع إخوتها يسألون نفس الأسئلة لسائق الحافلة الكبيرة، ستجدون القصة كاملة في مدونتها هنا.

في محطة الرمل اشتريتُ كل ما وجدته من ألغاز المغامرين، واشتريتُ رواية كافكا على الشاطئ لابنتي وبعض الكتب القيّمة لوالدي وعمي. ثم شعرتُ أنني زودتها حبتين فأجبرتُ نفسي على الاكتفاء بما اشتريتُه خاصة أنني تعبت من حمل كل هذا الكم من الكتب وحدي وأنا أمشي على قدمي. كانت رحلة الأولاد في الملاهي مخيبة للآمال، فانتهت مبكرًا وعادوا بالتاكسي، أما أنا فقد اتفقتُ معهم على اللقاء في مطعم سمك في نفس المنطقة التي كنتُ فيها، لكنني لما وصلتُ هناك وجدت المدخل يقع في زقاق ضيق، وعند مدخل الزقاق مجموعة شباب يتحدثون، فخشيتُ أن أتعرض لموقف مزعج عدا عن أن المكان غير ملائم لعائلة فكلمتُ الأولاد ليذهبوا لمول سان استيفانو لنتغدى هناك معًا.

الآن وقد مرت سنتين وجدت نفسي نسيت التفاصيل، لكني تذكرت أنني أرسلتُ بريدًا إلكترونيًا لأختي فيه كل التفاصيل، وفيما يلي مقتطفات مما كتبت:

 بعد ما اطمأنيت على محمد، خرجنا أنا وخديجة نجيب نيوتيلا وحليب من البقالة. دلنا الأمن على أقرب بقالة ورحنا اشتريت حليب جهينة اللي عجب هاشم مرة، وشوكولاتات وشيبس ونيوتيلا ومناديل وموية رغم إن في ثلاجة موية زي حقتنا في الشقة، وحسيت إني روقت، قلت لخديجة نروح نتمشى شوية؟ قالت أيوة، رحنا مشينا على نفس خط شقتنا كنت شفت كافيه سلانترو، مشينا لهناك ودخلنا كان دافي ومافي زحمة، لقينا مكان تحت عند غير المدخنين وطلبنا ردفلفت وشكولاتة ساخنة وجلسنا نتكلم. حبيت الجلسة، بعدها قلنا خلينا نرجع الشقة”

“وقرروا يخوضوا التجربة رغم إن الباص تأخر لكنهم أصروا يستنوه، راحوا وأنا رحت، ركبت معايا وحدة محجبة قلت بشوفها ايش تسوي، طلعت 10 جنيه وأعطتها اللي قدامها قالتله واحد المنشية، قام أعطى السواق وردد نفس العبارة، السواق أخذ العشرة ورجع الباقي وهو يقول نفس الجملة واحد المنشية ووصلوا لها الفلوس، قمت عملت زيها أعطيت اللي قدامي 3 جنيه وقلتله واحد محطة الرمل، طلبت منها تقلي لما نوصل محطة الرمل. نزلت فيها عند تمثال سعد زغلول، وسألت عن شارع النبي دانيال لقيته قدامي. والتكملة الإيميل الجاي. “

للأسف لم أجد الإيميل الجاي، إذ يبدو أنني عدت متعبة وأكملت الحديث بالهاتف. والآن أحمد الله أنني كتبت هذه الإيميلات التي سأعود إليها من وقت لآخر لأسترجع الذكريات بتفاصيلها. لقد وجدتُ 4 إيميلات كلها عن الرحلة، منذ أن وصلنا مطار القاهرة وحتى هذه الجزئية الأخيرة. ما حدث في اليوم الأخير هو أننا تناولنا الغداء في مطعم صغير مقابل مول سان ستيفانو، فقد أراد هاشم تجربة الكشري الذي سمع عنه لأول مرة في مسلسل “لن أعيش في جلباب أبي” والذي كانت تبيعه فاطمة في عربتها المتنقلة قبل أن يتزوجها المعلم عبد الغفور البرعي. كما أردت تجربة الكبدة الاسكندراني، وكان ختامها مسك، أتى سائق التاكسي الذي أوصلنا من المحطة عند وصولنا ليقلنا لمطار برج العرب، وكنت قد اتفقتُ معه على موعد ذهابنا، أخذنا حقائبنا ومررنا بمحلات حسنين للبسبوسة، اشتريتُ منها ما تيسر وذهبنا للمطار الذي يقع في منطقة بعيدة خارج اسكندرية، واجهتنا بعض المشاكل في الطريق إذ وجدنا بعض الطرق مغلقة بسبب مباراة كانت ستقام تلك الليلة، واضطررنا للالتفاف حول الطريق أكثر من مرة، الحمد لله أننا وصلنا في وقت مناسب وعدنا لبلادنا سالمين وسعداء ومبسوطين، وعازمين على العودة إليها في أقرب فرصة بإذن الله.

رأيان حول “على شط اسكندرية

اضافة لك

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑