غالية

أين ترى نفسك بعد 5 سنوات؟

هذا السؤال المخادع الذي طار به غالبية المهتمين بتنمية الموارد البشرية على مدى السنوات الخمسة عشر الماضية، وأثقلوا به كواهل المتقدمين للوظائف للبحث عن إجابة تجعلهم يتجاوزون الامتحان بنجاح.

أعذار المفتونين بهذا السؤال كثيرة، وأولها أنك يجب أن تهتم بصحتك اليوم لتكون بصحة جيدة بعد خمس سنوات، وكذلك بقية جوانب حياتك. هذا ليس المقصود بالسؤال، إنما أين ترى نفسك بعد خمس سنوات، في أي منصب وأي مجال وأي مكان. وأقول بيقين آتٍ من تجربة شخصية، لو سئلت قبل 5 سنوات أو عشرة، أو عشرين أو حتى سنة واحدة لما عرفت أنني سأكون حيث أنا اليوم.

كنت أعرف أنني أحب أن أدرس، وكنت أعرف أنني لا أود أن أنجب الكثير من الأبناء. ثم فكرت أنني أحب أن أدخل مجال العمل، لكنني لم أكن أعرف ماذا سأعمل وكيف، ثم شعرت بالراحة لأن أطفالي قد كبروا ولم يعودوا بحاجة إلى كثير من العناية بهم ومتابعة دراستهم وامتحاناتهم واحتياجاتهم، وحان الوقت لأستمتع بحياتي. هناك الكثير مما أنعم به الله علي، والكثير مما لم أخطط له ولم أعلم بوجوده أو إمكانية حدوثه سواء رغبت به أو لم أرغب.

يقول عمر طاهر في كتاب المواصلات: “أنت تعرف أن لك “فلوس” في مكان ما رتبت عليها خطتك، لكنها فعليًا غير موجودة، الموضوع يتجاوز يقينك أن الأرزاق على الله، فقد أرسل الله لك رزقك، لكن جهة العمل قررت أن تختبر إيمانك.”

أفكر كثيرًا في هذا الأمر، من زمان، كيف أن الله كفل الرزق لجميع المخلوقات. قديمًا كان المرء يخرج لطلب رزقه، ويعود لبيته مساءًا وقد أحضر طعام اليوم له ولعائلته. ثم أتى نظام العمل الحديث بصورته الحالية، وضمن لك راتبًا تأخذه بنهاية كل شهر، فصار اعتماد الإنسان ويقينه على الراتب، ليس على من سخره له، فاضطربت الفكرة وصعب الأمر علينا. موقنة بأن رزق كل إنسان سيأتيه لا محالة، لكنني كنت أسأل نفسي دائمًا: هل سيختل يقيني عندما أفقد ما نعتبره (المصدر المضمون للرزق)؟

الكثير من التغيير الذي يحدث في سنوات منتصف العمر يظهر أنه ضدك، ضد ما خططت له أو حلمت به أو فكرت فيه، أو حتى ضد ما تتوقعه، ولكن هذه هي الحياة. يمكنك أن تصارع المد، أو تترك نفسك تتدفق مع الموج إلى الشاطئ.

في مرة قابلت شخصية رائدة في مجال التصميم الجرافيكي، كان قد استعان بمقولة ستيف جوبز: “لا يمكنك توصيل النقاط وأنت تنظر إلى الأمام، إذ بإمكانك إيصالها فقط من خلال النظر إلى الوراء. وعليك الوثوق بأن هذه النقاط ستتصل ببعضها البعض في المستقبل.” وعلق قائلاً: “عندما أنظر إلى الوراء تتجلى لي تلك النقاط التي ما أن أوصلها ببعضها حتى أصل إلى ما أنا عليه اليوم”.

يدحض د. جلال أمين في كتابه “خرافة التقدم والتخلف” فكرة أن التاريخ الإنساني تاريخ تقدم متصل من الأسوأ إلى الأفضل، أي أن الحاضر لابد أن يكون أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل منهما جميعًا. وأن هذا الاعتقاد الذي تسرب إلينا دون أن نشعر من خلال المقررات المدرسية والخطب السياسية والإعلام، يجعل أكمل وأفضل مراحل التطور الاقتصادي لا تتم إلا بالوصول لنمط الحياة الأمريكي الحالي. ثم يقول:

“يشيع ويستقر في النفوس أن التقدم في مضمار القوة والرخاء المادي والكفاءة لابد أن يعني تقدمًا في سائر جوانب الحياة: العلاقات الاجتماعية، والتنظيم السياسي، والمستوى الأخلاقي والجمالي، والرفاهية الإنسانية بكل عناصرها، مادية كانت أو غير مادية. فإذا كان الشخص الذي يحوز القوة والرخاء المادي والكفاءة “خواجة”، فقد أصبنا جميعنا بعقدة الخواجة ولا حول ولا قوة إلا بالله. وفي غمار ذلك تضعف إرادة متعلمي الأمة ومثقفيها، وتلين الأخلاق، ويغض الطرف عن التمسك بالتقاليد شيئًا فشيئًا، ويسمح المثقف لنفسه أن يتجاوز عما لم يكن من قبل يتجاوز عنه، فيفعل مثلما يفعل الأجنبي ويقلده ما استطاع طلبًا لرضاه، بل ويبدي استعداده للضحك والسخرية من عادات قومه إذا ضحك وسخر منها الأجنبي. وخلال هذه العملية البائسة من التحول النفسي تضيع أشياء ثمينة لا يبدو أن بينها وبين القوة العسكرية أو بالرخاء أو بالتقدم التكنولوجي أية علاقة.”

الكتاب يقدم أفكارًا مثيرة للغاية. وهو لا ينكر الحاجة الماسة إلى الإصلاح، فعيوبنا كثيرة، لكن الإصلاح المنشود ليس أن نفعل مثلما فعل الآخرون. وفي رأيي أن عدم الانسلاخ من الهوية هو أمر مهم حقا. فالهوية هي إرث وعادات وأخلاق وقيم ومُثُل عليا. هي روح وحضارة وتاريخ، والاعتزاز بهويتك هو الذي يجعل لك شخصية حاضرة وقوية، ومكانة فريدة، ورأي مسموع.

أعلم أنني أسر برؤية المباني النظيفة الشاهقة، والشوارع الواسعة المرصوفة، والحدائق المخططة جيدًا. لكنني أسعد أكثر برؤية المباني العتيقة، والأحياء الشاهدة على القصص الغابرة، ومباريات الملاعب الترابية، والأشجار المطلة من أفنية البيوت القديمة، تظلل شوارع الحي الضيقة، وتسلم على عابريها. أحب أن أرى شيئًا مختلفًا، لا أن أرى ما تراه عيني في كل مكان من حولي. كلما كانت لك هوية مميزة، كلما أثرت الفضول، وجذبت المزيد من الناس، بعكس التشابه الذي يورث الملل وقلة الاهتمام وانعدام الرغبة.

هناك أشياء كثيرة وددت أن تتغير، لكن الأشياء القديمة هي جزء من تاريخنا، هي قصتنا، هي حياتنا التي عشناها، فلنحفظ لها الود، ولنحفظ مكانها بيننا ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. فلنعتبرها أثرًا تاريخيًا لا يؤثر في مجريات طموحاتنا المستقبلية، بل يضيف إليها عمقًا وأصالة. أما إذا اضطررنا، فلنودعها بالكلمة الطيبة، وبالشكر الجزيل. فالجحود والنكران ليست من فضائل الأخلاق.

سؤال “أين ترى نفسك بعد 5 سنوات؟” هو سؤال صدرته إلينا الثقافة التي تفترض يقينًا أن السيطرة بيدك، وأن بإمكانك تحقيق أي هدف أو طموح إذا خططت له جيدًا. كما صدرت إلينا الكثير من الأفكار الأخرى.

في يوم وليلة قد تسقط دول، وتضطر للانتقال من بلدك، وتفنى حضارات، ويرحل عن الدنيا من تحب. والأجدر ألا نندم على ما فات، ولا نرجو ما هو آت أو غير آت، ليس بيدك سوى اليوم واللحظة، فلنحافظ على ما بأيدينا، من أنت؟ وكيف ستعمر الأرض اليوم؟ ما النعمة التي بيدك؟ كيف ستشكرها؟ وكيف ستحافظ عليها؟ ما الفسيلة التي ستزرعها، وما القيمة التي ستقدمها لمن حولك؟ اليوم فقط.

“يا ابن آدم, خلقتك للعبادة؛ فلا تلعب، وقسمت لك رزقك؛ فلا تتعب، فإن أنت رضيتَ بما قسمتُه لك، أرحتُ قلبك وبدنك، وكنتَ عندي محمودًا، وإن لم ترض بما قسمتُه لك، فوعزتي وجلالي لأسلطنَّ عليك الدنيا؛ تركض فيها ركض الوحوش في البرية، ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك، وكنت عندي مذمومًا. يا ابن آدم, إنني لم أنس مَن عصاني؛ فكيف من أطاعني، وأنا رب رحيم, وعلى كل شيء قدير. يا ابن آدم, لا تسألني رزق الغد كما لم أطلبك بعمل الغد. يا ابن آدم, أنا لك محب؛ فبحقي عليك كن لي محبًّا”.

   

رأيان حول “غالية

اضافة لك

  1. شكراً من القلب!

    تدوينة رائعة، عن نفسي بحتفظ بها عشان أرجعلها بين كل فترة وفترة إن شاء الله. 💖💖💖

    Sent from my iPhone

    >

    Liked by 1 person

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑