جيبي بودكاست

تعاتبني على تقصيري، مر شهران على نشر آخر حلقة بودكاست، ولما نشرتُ الحلقة الجديدة غضبت مني لأنها لا تستطيع أن تسمعها “وتخلصها وهي ما عندها حلقة جديدة”. فلازم تقومي الآن تسوي حلقة جديدة!

هاتفني والدي قبل أيام يشكي لي من غياب الإلهام، فهو يود كتابة مقالة جديدة لمجلة أدبية لكن ليس لديه موضوعًا لها. كنتُ قد نشرتُ لتوي بودكاست المؤثرين، ولا زالت فكرة الجوار (بمعنى الإجارة وليس الجيران) تأسرني، فسألتُه: تعرف قصة مجير الجراد؟ قال: لا، قلتُ له هذا رجل اسمه أبي حنبل ابن مر، لما كان موسم الجراد في منطقته وقع سربٌ من الجراد في أرض قريبة من داره، فأتاه قومه يهرعون إليه قال: ما شأنكم؟ قالوا: نريد جارك (أي الجراد)، فقال: أما وقد جعلتموه جاري فوالله لا تصلون إليه، فلم يصلوا إليه حتى طار الجرادُ من عنده فلُقِّب بمجير الجراد ولا زال يعرف بذلك إلى اليوم.

تعجب أبي من الحكاية، فقلت له ستجد قصصًا أعجب، وقصائد شعرية كثيرة يفخر أصحابها بفضيلة الجوار التي تميزهم أو تميز قبيلتهم، وقد تجدُ قصصًا في واقعنا تعكس هذه الفضيلة لكن بشكل مختلف يناسب زماننا، وستكون مادة جيدة لمقالتك، فقال صحيح؛ لكنها ما قالت: قاق!

فهمتُه دون شرح، فالموضوع الذي لا يحفز تفكيرك ولا يثير خلايا عقلك لا يمكنك الكتابة فيه بشغف، وبالتالي يكون المنتج دون المستوى المأمول. لكنها تخالفني في ذلك: “انت أكتبي وقولي أي كلام واعملي لنا بودكاست!”

استيقظتُ اليوم وقد غيبتُ ابنتي عن المدرسة، فهي لازالت تسعل وإن كانت الكحة أخف، لكن والدتي أشارت عليّ بجعلها ترتاح اليوم كذلك. قليتُ بيضًا للإفطار، وسخنتُ بعضًا من “الدال”، والدال كلمة هندية تعني عدس، لكنه مطبوخ بطريقة مختلفة عن شوربة العدس، ويؤكل مثلما يؤكل الفول تمامًا، مع الخبز، يرافقه بيض وجبن، وشاهي أحمر قاني اللون بالطبع.

أتذكر صديقتي في المدرسة عندما شاهدت الساندويتش الذي تحضره لي والدتي وعرضتُ عليها تجربته فحاز على إعجابها لكنها لم تستطع تمييز طعم الدال، وظلت تسألني عن هذا المكوّن العجيب اللذيذ بعد عدة أيام كنتُ أحضر لها منه فتأكله باستمتاع وفضول، ولما أخبرتُ تعجبت لكنها لا زالت مستمتعة بالوجبة الغنية التي تحضرها والدتي لنا نحن الاثنتين.

لا أجيد طبخ الدال مثلما تجيده سيدات العائلة الكبار العريقات في الطبخ، فبيت والدتي لا يخلو منه، وبيت خالتي وبيت بنت خالتي الكبيرة، أما بيتنا فيعتمد على ما ترسله إلينا أمي أو خالتي من وقتٍ لآخر، وهذا “الدال” الذي أفطرتُ عليه اليوم أحضرته خالتي معها عندما زارتني الجمعة الماضية، فقد قررتُ أن أقيم فعاليات لسيدات العائلة ما بين فترة وأخرى، نقرأ فيها من كتاب، ثم استحدثتُ فقرة للغناء الجماعي كتجربة، حضرتُ أغنية لعبدالحليم توقعتُ أن تكون معروفة لغالبية الحاضرات، وكتبتُ كلماتها وأرسلتها لهم، وجلسنا نغني جانا الهوا على أنغام حفلة لفرقة كورالا على يوتيوب. لم أتخيل أن تنجح الفقرة بهذا الشكل، فقد انتشرت البهجة في المكان مع أصواتنا وضحكاتنا، وقلبنا المكان إلى مجلس أشبه بمجلس لمياء الرياحي. لم تدم الفقرة إلا دقائق قليلة لم تتجاوز العشر، لكن النشاط عم واستمر حتى نهاية الليلة.

المهم أنني فطرتُ مع ابنتي بيض ودال وجبنة، وشاهدتُ حلقة للدحيح عن أنجيلا ميركل، ظهرت لي في اقتراحات اليوتيوب. فكرتُ أنه ما شاء الله يعني، ينشر حلقة كل أسبوع، ولما راجعتُ القناة وجدتُ أنني مخطئة، لأنه ينشر حلقتين كل أسبوع وليس حلقة واحدة. وحلقاته ثرية ومليئة بالمعلومات عدا عن المونتاج والمقاطع التمثيلية التي يمثلها بنفسه! فما عذرك أنت ياللي جالس تنتج حلقة بودكاست بمزاجك وتترك (الجمهور العريض) ينتظر كل هذا الوقت لأجل حلقة واحدة؟ هل أنت أم كلثوم مثلا؟

وهذا التساؤل جعلني أسأل شات جي بي تي حول معدل إنتاج أم كلثوم للأغاني، فأجاب أنها كانت تُصدر عددًا محدودًا من الأغاني الجديدة كل عام، وغالبًا ما كانت تُصدر أغنيتين إلى أربع أغانٍ فقط في السنة. وقال أن السبب هو أنها كانت تعمل بعناية شديدة في اختيار الألحان والنصوص الشعرية، وكل أغنية تتطلب شهورًا من التحضير والتدريب قبل أن يتم تقديمها للجمهور على الهواء مباشرة في حفلات شهرية، وتمتد الأغنية لساعة أو أكثر.

كانت أم كلثوم تركز على الجودة أكثر من الكم، وعلى الرغم من أن معدل إنتاجها للأغاني الجديدة كان محدودًا، إلا أن كل أغنية من أغانيها كانت تُحدث ضجة كبيرة وتترك تأثيرًا طويل الأمد في الساحة الفنية. بعض أغانيها استمرت في الذاكرة لعدة عقود ولا تزال تُعتبر من روائع الموسيقى العربية.

أتذكر أنني سمعتُ لقب “كوكب الشرق” الذي تلقب به أم كلثوم لما كنتُ في المرحلة الابتدائية، وقلتُ ما الذي يمنعني من أن أطلق على نفسي لقب “سيدة الشرق والغرب”؟ وكنتُ بكل جرأة أوقع بهذا اللقب قبل اسمي على القصص التي أشتريها، وفي مراسلاتي مع بنات عمي (اللي كانوا وقتها ساكنين في الرياض) ويأتون لزيارتنا في الإجازة الصيفية كل عام.

لستُ أم كلثوم، رغم أن ابنتي أطلقت علي لقب “أم كلثوم البودكاست”، ولستُ الدحيح، ولستُ حساب يوميات نور على انستجرام، بالمناسبة لقد عاد الحساب للنشر بعد غيابٍ طويل، وسعدتُ حقًا بمنشوراته الجديدة. لكنني أحاول أن أبذل جهدي وأحفز نفسي على الاستمرار في الكتابة، وقد فادتني مقالة “الكتابة المستمرة” من نشرة ملهم في أن علينا أن نزيل العراقيل ومنها الشرط العالي في الناتج الكتابي، والتخلص من استعباد لحظات الإلهام التي تتغلى على طالبيها. فالسطران، كما قال في مقالة هالة البدايات، مفتاح الصفحات والثواني مفتاح الساعات، والبداية شطر الإنجاز.

7 رأي حول “جيبي بودكاست

اضافة لك

  1. إذا كان الهدف من النشر غير تجاري لا يجب الإلتزام بجدول محدد فالدحيح ورائه فريق عمل و مرابيح وكذلك أم كلثوم كانت مع مجموعة من المنتجين والملحنين…

    Liked by 1 person

    1. نحن كذلك نطحنه أو جزء منه بعد السلق في الخلاط، والبعض ما يطحنوه لأنه يكون ذايب، ونجهز الكشنة (نطبخ البصل مع الطماطم والبهارات ونضيف لها شبت) ثم نضيف العدس إلى الكشنة.
      وبلغ تحياتي إلى قريبتك 🙂

      إعجاب

  2. العدس طبخة شتوية بامتياز ومع عصرة ليمون يا سلام عالطعم .. بالعافية عليكم يارب

    إذا في مجال تشاركين مقال الوالد بعد نشره أكون شاكرة لك

    أحب جداً فعاليات الغناء العائلية دافئة ومبهجة دائماً رغم النشاز

    إعجاب

    1. يعافيكِ ربي. بإذن الله رح أشاركها حال نشرها ..
      هذي الفعالية بالشكل هذا أول مرة نسويها والغريب إنه النشاز كان قليل، لما رجعت للفيديوهات كان الأداء كتجربة أولى ممتاز 😂 واللافت البهجة اللي عمت الجلسة الله يديمها يارب💞

      Liked by 1 person

اترك رداً على رفاق إلغاء الرد

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑