أنا ملاّنة

“أنا ملاّنة” جملة تعلمتها ابنتي من مسلسل الأطفال أمونة على قناة ماجد. وملاّنة باللهجات الأخرى تعني: طفشانة، أو زهقانة، أو ضبحانة. وبالعربي الفصيح تعني: أشعر بالملل.

وأعترف أنه من النادر أن يشعر المرء بالملل هذه الأيام، فكلنا لديه ما يهرب إليه، ووسائل الترفيه متوفرة على اختلافها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر؛ والعياذ بالله.

قبل أن أصل للأربعين طلب مني أحد التوأم أن أحضر له أخًا أو أخت، قال أنني وعدته وهو طفل أنني سأنجب عندما يكبر، قلتُ له أنني ظننتُ أن هذا اليوم لن يأتي أبدًا. وقتها فكرتُ في أمر الإنجاب، وأني الآن لدي الوقت لأتخذ هذا القرار قبل أن أخسر الفرصة. لم أتخذ القرار لأنه صعب جدًا، خاصة إن كنت قد ربيت توأم أولاد، من الصعب أن تقرر تكرار الرحلة وأنت لم تنسَ بعد متاعب التي سبقتها. لم أقرر، لكنه تعالى قدّر أن يتمّ الأمر لي. وهكذا لازمتني نوبات البكاء منذ أن عرفتُ بالخبر وحتى ما قبل الولادة.

أحيانًا يمر اليوم بسرعة بدون أن أنجز شيئًا ذي بال، ما بين أعمال المنزل القليلة، وتصفح مواقع التواصل الاجتماعي، والعناية بالطفلة التي أصبحت فتاة على أعتاب المرحلة الابتدائية.

بعد أن تنام الطفلة، أفتح الأباجورة ذات الإضاءة الخافتة وأقرأ بعض الأدعية والصلوات، وعندما أنتهي قد أتصفح تويتر، لكنني غالبًا أفضل السكون لبعض الوقت قبل النوم. أطفئ النور وأسبح مع أفكاري.

قبل أيام قال ابني أنه كان نائمًا، “كنتُ أحلم بك وبخديجة ومحمد وببيتنا حتى سمعتُ صوت المنبه”، لم يكن يعرف منبه ماذا في تلك الساعة المتأخرة من الليل، لكنه لما نهض وجد المنزل يهتز، ومع قراءته للرسالة على هاتفه علِم بأن زلزالاً قوته 6 على مقياس ريختر قد ضرب المنطقة، ظل يتخبطُ يمنةً ويسرى يحاول الوصول للنافذة، لكن حركة الأرض كانت تسحبه للداخل. “كنتُ أتأرجح يمين شمال، خلص الزلزال وأنا لسه أتمرجح”. عرفتُ أنه فقد توازنه حينها فسألته هل قست السكر؟ قال أنه كان مرتفعًا قليلا، فأخذ الدواء حتى يعود إلى مستواه الطبيعي. أثناء الثواني القليلة للزلزال حاول الذهاب ليخبر أخاه في الغرفة المجاورة، لكن أخاه كان واضعًا سماعة الهاتف يشاهد “طاش ماطاش” ولما انطفأ الهاتف فجأة ووصله التنبيه ظل متسمّرًا في مكانه ينظر للدولاب الذي يكاد يسقط، مسلّمًا الأمر لله، ومعترفًا في داخله: “الحمد لله على نعمة السكون”.

عندما هاتفتني والدتي لتطمئن على الأولاد أخبرتني أمرًا ظل يدور في مخي، فكرتُ أن أرميه عن كاهلي بالحديث مع أحد المقربين، لكنني تراجعت، فأنا فعلا لا أود أن أفكر بالأمر. تذكرتُ الخالة بيبا في فيلم إنكانتو، فقد كان الطقس يتغير بحسب مزاجها، وعندما تتوتر تتكوّن فوق رأسها غيمة سوداء تبرق وترعد، “فضيحة بجلاجل”، فتحاول هشّها بيديها حتى لا يكتشف الآخرون قلقها. الحمدلله أنني لا أملك موهبة من هذا النوع.

أريد أن يتحدث إليّ أحد مثلما تتحدث بسمة في رفاق، لكنني لا أعرف غيري، كما أنني أشعر بالملل عندما أفكر أنني سأسمع صوتي في سماعات الهاتف. رغم أنني في بعض المرات أكون مستمتعة بالأمر. الفكرة أنك أحيانًا تريد أن تسمع شخصًا يطمئن روحك بدون أن يعرفك، أو أن يكون لك دور في الحديث. تسمع وأنت ساكت.

كان العم أحمد -رحمه الله- نجارًا في الأساس، لكن كل عمل تحتاج فيه إلى مساعدة فسيقوم به من أجلك. وتلك الأيام كان هو السائق الذي يحضرني من الجامعة. أحيانًا كان يتحدث، لم يكن ثرثارًا أبدًا، لكن بحكم معرفته بكل العائلة فدائمًا يكون هناك مجال للحديث. وأحيانًا يشغل المسجل منطربًا على أنغام الأغنية:

ساكت ولا كلمة، صابر ولا رحمة

وبتألم وانا ساكت، وباتظلّم وانا ساكت

ولا قد جيت باتكلم، عجم حلقي ولا كلمة.

أحب هذه الأغنية التي لم أسمعها إلا في سيارته، أتذكر أناسًا من حولي تتجسّد فيهم كلمات الأغنية. في مرة سألتني ابنتي: إذا كنتِ تريدين أن يصمت الذي أمامك، ماذا تفعلين؟

لم أجبها، لكنني فكرتُ كثيرًا في سؤالها، ووجدتُ أن هذا الأمر قد يكون في حالتين:

الحالة الأولى عندما يتحدث الذي أمامك بكلام ممل، ويسهب في الحديث دون أن يغادر المنطقة، أحيانًا أشعر أنني أريد أن أصيح بـ “خلاااص” مدوّية، لكن عيب، طالما الشخص الذي أمامك لم يتجاوز الحدود معك فأنسب طريقة هي تغيير الموضوع لموضوع آخر محبب للموجودين. في تلك الليلة حدث موقف مشابه، وعندما غيرتُ الموضوع وضحكنا قليلاً أعاد الشخص الحديث بلفةٍ ما لنفس المنطقة التي وددتُ الخروج منها. عدتُ إلى بيتي وأنا منهكة. منهكة بشكل غريب. وعزمتُ على الانتباه آملة عدم تكرار التجربة.

والحالة الثانية هي عندما يتحدث الآخر في شأنٍ من شؤونك لا تريد الحديث فيه. وتذكرتُ موقفًا مرّ عليّ لم أكن مستعدة له، لكن تصرفي أنقذني، فقد تحدثَت معي في أمر يخصني وطلبت مني التوضيح، نظرتُ إليها مطوّلاً، لم أعرف ماذا أرد، ثم فجأة قلتُ لها: قفلي هذا الموضوع.

ويا للدهشة فقد نجح الأمر، لم تسألني عن هذا الموضوع بعد تلك الساعة. ربما يكون الشخص الذي تتعامل معه أكثر وقاحة ولا يستجيب للأمر، لكنك إن أصررتَ واستخدمت أسلوب الأسطوانة المشروخة فقد تنجو من براثنه.

أريد أن أعرف إذا كان هناك حالات أخرى لأكمل القائمة، لكن لم تحضرني إلا هاتين الحالتين.

كان زوجي رحمه الله قليل الكلام، وورث ابنه الأكبر هذه الصفة منه، قبل أيام أرسل لي رسالة وهو في عمله قائلاً لم سألتني بالأمس عما إذا كان هناك جديد؟ قلتُ له هذا سؤال عادي ألا أسألك دائمًا عن الأخبار؟ قال بلى، ولكنكِ بالأمس سألتِني مرتين!!

ضحكت والله، وقلت له سألتُك لعلك تنطق! فضحك معي وقال لا يوجد جديد.

عندما أزور والدي وأسأله في سياق السلام والترحيب: ايش الأخبار؟ يقول: ساكنة.

وأحياناً يستطرد:

“No news is good news.”

وهو مثل انجليزي يعني أن عدم سماع أخبار هو بحد ذاته خبرًا جيدًا. لأنه لو كان هناك أمرًا مقلقًا لسمعت عنه على الفور.

في مرة علّق أحدهم على تدوينة أو بودكاست قائلا: “عندما يأتي الأحفاد سيملأون الفراغ”. أعترف أنني أستصعب الفكرة، لستُ صغيرة، لكنني لست كبيرة إلى الحد الذي أتوق فيه للأحفاد، عدا عن أن هناك فرق بين الشعور بالملل، وبين الإحساس بالوحدة، كما أنني أريد أن أملأ الفراغ بأشياء تخصني، وتخص حياتي، لا حياة الآخرين.

أنا ملاّنة، كلمة تعلمتها ابنتي مثل كلمات كثيرة غيرها، لكنني لا أتجاهلها، بل أشرح لها أن الملل شيء “كويّس”، وأنها يجب أن تملأ فراغها بتحسين خطها في الكتابة وفي قراءة القصص، وفي التلوين، أو باللعب مع أصدقائها الألعاب، أو تفكر وتخبرني بماذا تفكر. الملل مثله مثل السكوت ومثل السكون، يسمح لنا بسماع أفكارنا، والإبحار في الملكوت الوسيع.

رأيان حول “أنا ملاّنة

اضافة لك

اترك رداً على marwa إلغاء الرد

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑