براح

أبحث عن البراح، فلما أجده أشكو الفراغ!

هذه الأيام مزدحمة، والدتي بدأت تستعيد صحتها الحمدلله، وعادت قدرتها على التواصل مع الآخرين وممارسة دورها في الاهتمام بهم ولو من بعيد. فقرة الحديث اليومية بعد تناول الإفطار والمخمخة على الشاي العدني دومًا فقرة ثرية، فيها تعلمني والدتي أشياء لم أتعلمها بعد.

دائمًا كنت أفكر في مقولة: “اللي يحبه ربنا يحبب خلقه فيه” والمستخلصة من الحديث الصحيح: ” إن الله إذا أحب عبدًا نادى جبرائيل إني أحب فلانًا فأحبه، ثم ينادي جبرائيل في أهل السماء: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، ثم توضع له المحبة في الأرض”، وأفكر فيمن أحببتهم دون أن يعرفوني، فدعوتُ لهم في سري، وطمحتُ بأن أكون منهم، لكنني لم أنتبه إلى من عرفتُهم وعرفوني، ماذا فعلوا وكيف وصلوا، واليوم أرى أمي محاطة بالدعوات والقلوب المُحِبة وصادق الود، وأرى أن السنين التي قدمت فيها السبت، أصبحت اليوم أحد.

أتى الأولاد كذلك، فامتلأ البيت، وامتدت موائد الإفطار والغداء، وحتى العشاء الذي لم يكن ضمن وجبات اليوم أصبحتُ أجد له صدًى عندي. والزوار الجدد الحديث معهم مسلٍّ وعميق، فتساؤلاتهم حاضرة دائمًا، وقصصهم التي يحملونها معهم تفتح النقاش حول الهوية والقيم والأخلاق وطبائع البشر. أحيانًا أخرج منها مُتعَبة، وأحيانًا أثور وأغلق باب النقاش، وأحيانًا نسترسل في الحديث حتى بعد انتهاء الطعام وانتقالنا إلى غرفة أخرى.

وعلى الصعيد ذاته لم أعد أفتح المصحف إلا يوم الجمعة، أما جهاز الكمبيوتر فيظل مغلقًا معظم أيام الأسبوع، ومع بدء المدرسة ونهوضي صباحًا مع ابنتي التي أصبحت في الصف الأول الابتدائي لم يتبق لي من الوقت إلا القليل. كنتُ أعيد مع والدتي مشاهدة مسلسل المدينة البعيدة بعد العصر، لكنها لم تحتمل مشاهد العراك والتوتر معهم، فامتنعت عن المشاهدة، ولما أتى الأولاد رغبوا في مشاهدة مسلسل “حال مناير” معنا، فكنتُ أرى والدتي تضحك على المواقف وتعليقات الأولاد وهي تتابع الحلقات الأولى منه.

غُمرة ابنة عمي كانت حديث الأسبوع، ولأنني ووالدتي لم نستطع الذهاب، فقد شاهدنا الصور والفيديوهات باستمتاع، كانت والدتي حزينة لأنها لم تتمكن من مشاركة ابنة أختها في التحضيرات لفرح ابنتها، وبنت خالتي كذلك افتقدت والدتي كثيرًا، ولم تستطع إرسال الدعوات إلا بعد حديث والدتي لها: “إذا تبيني أصير بخير سوي أحسن حاجة لها، وافرحي وخلي البنات يفرحوا وقومي بالواجب على أكمل وجه” وأنا حاضرة تلك المحادثة مع والدتي على سريرها في المستشفى، تضامنت دموعي مع دموع بنت خالتي على الطرف الآخر من الهاتف.

واليوم بعد قراءة سورة الكهف فتحتُ جهاز الكمبيوتر، فوجدتُ رسالة على لينكدإن لدورة تدريبية قد تساهم في تطوري المهني، وبعيدًا عن المضمون وجدتُ الفكرة ملهمة، لكن القيود الحالية تتابعت على خاطري، فأكملتُ تصفح الموقع حتى وجدتُ ضيقًا بداخلي فأغلقت المتصفح فورًا.

أقول لوالدتي لن ادعكِ تعودين إلى بيتك إلا لو أتقنتِ التصرف كملكة، تأمرين وتنهين ولا تهتمين لأي شيء غير صحتك وراحتك، تضحك وتقول لي بجدية: لا لن أهتم لأي شيء في البيت، كلهم كبار وكل واحد مسؤول عن نفسه. أنظر لها بتشكك وأقول: أفلح إن صدق.

في يوم الحفل، تجلس والدتي على سريرها متململة، وتسأل: هل أنهت خديجة لبسها؟ قلتُ لها لا أعلم فهي كبيرة بما يكفي وإن احتاجت إلى مساعدة ستأتي إلينا، تسكت غير معجبة بردي، ثم فجأة تنهض بحزم قائلة سأذهب لمساعدتها.

ثم ترسل لي ابنتي فيديو قصير لوالدتي وهي تلبسها الحزام وحلق اللؤلؤ المزيّن بالذهب ثم ترتب لها الحاجيات في الشنطة.

أحب أن أكون مثل أمي، لكن قلبها أكبر، وقدرتي على استيعاب البشر ضئيلة مقارنة بقدرتها، أعلم أن رسالتي ليست الاعتناء بالآخرين، ولا أنوي جعلها كذلك، لكنني سأصبر وأسمع وآخذ ما أستطيع منها لعل الله يكرمني.

4 رأي حول “براح

اضافة لك

  1. الله يحفظ الوالدة لكم ويعطيها الصحة والعافية ويمد في عمرها، كلما تقدم بي العمر لاحظت أنني أفعل ما كان يفعله الكبار قبلي، لن نكون نسخة منهم لكن قد نصل لنفس المكان بطرق أخرى.

    Liked by 1 person

  2. (وقدرتي على استيعاب البشر ضئيلة مقارنة بقدرتها) لفتتني عبارتك هذه، وأعتقد أنها أعمق بكثير مما تبدو؛ استيعاب الناس بكل تفاصيلهم وتعقيداتهم وأخطائهم حتى… لماذا يستوعب البعض منا أشكال متنوعة من البشر بينما يتوقف آخرون مكتفين بحصيلة ما هم مضطرون للتعامل معهم أو الاختلاط بهم؟
    في مرة وصفت شخصية أعرفها بأن عندها طاقة حب كبيرة، لكن حين أفكر الآن أتأكد أكثر بأن حب الناس بشتى أنواعهم ليس جانب قوة البتة، حين أضعه مقارنة بالأشخاص الذي يستوعبون البشر قبل أن يحبوهم، هؤلاء خارقين برأيي، الحب يتجاوز التعقيدات وفيه شيء من الأنانية ولا أراها مقدس كما التفهم والتقبل والاستيعاب 🙆🏻‍♀️
    الله يحفظ لك الوالدة، أحببتها من كلامك، اذا كانت تعرف بتدوينتك فبلغيها سلامي، وقبلي طفلتك الجميلة💖

    Liked by 1 person

اترك رداً على As.wy إلغاء الرد

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑