معارك

مرت بي قبل أيام موجة من الانزعاج الحقيقي جعلتني أغرق في تمرير المنشورات بلا هدف أو فائدة. بدون أن أشعر أمرر المنشورات التي تعرضها عليّ خوارزميات “إكس” بدون تفكير، ثم أنتبه فجأة وأقول لنفسي “ليش تسوي بنفسك كذا؟!”.

كل المنصات نفس النظام، تجعلنا نمرر محتوى لم نختره، محتوى غير مفيد وغير مهم وغير حقيقي. ونحن نستهلك هذا المحتوى ظنًا منا أننا نمضّي الوقت، ثم نكتشف أنها ليست فقط بلا فائدة، بل مضرّة، ففي لحظات يمكن أن يتغير مزاجك من الأمل للضيق للاستهجان للضحك وغالبًا تنتبه عندما تضيق نفسك فتُجبرها على إغلاق الهاتف.

المشكلة في أن توجهات الشركات والبراندات لإنشاء محتوى لأهداف مختلفة لا زال قويًا، وهنا تجد المنصات فرصتها في الربح من خلال خوارزمياتها التي تحجب هذا النوع من المحتوى ما لم تقم الشركات بدفع المال لترويجه. وكي يجذب جمهورًا أكبر تحاول مواكبة الترندات والمنشورات التي حققت انتشارًا فيروسيًا أو تفاعلاً واسع النطاق. وهذا يجعل الشركات تظهر أكثر وتلقى تفاعلاً أكبر. قد يجدي ذلك في وصول البراند إلى جمهور أوسع وتعزيز الوعي به لكنه سيحتاج إلى أن يدفع بشكل مستمر كي يظل حاضرًا على الساحة. فكما يقولون: “المنصات تكافئ الشركات التي تدفع لها الأموال فتسمح لها بالوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور”. أصبح العمل على محتوى الشبكات الاجتماعية يثير الاشمئزاز. صحيح أن هناك من يخلق مساحة وادعة وحياة هانئة في الركن البعيد الهادي، لكن الثمن غالي والعائد مخيب للآمال.

أرى كثيرًا ممن عرفتهم زمان على تويتر قد زهدوا فيه، وأعني قبل عشر سنوات وأكثر، واختفوا من الساحة أو قنعوا بمقعد المتفرجين دون المشاركة. أما من بقي إلى اليوم فقد يكون ذلك من دواعي الضرورة، فالظهور لبعض الناس يجلب لهم الفرص ويعزز انتماءهم لمجموعة ما ويحافظ على قاعدة معجبيهم أو على مساحة التأثير التي بناها على مدار سنوات طويلة. وبعض من كافأتهم المنصات بالشهرة رغم قصر عمرهم الافتراضي فيها فربما كان ذلك ابتلاء كما قالت إحداهن عندما أرادت إحدى متابعيها أن تصبح مشهورة مثلها:” لقد انشهرت بدون قصد، ورأيتُ أشياء تمنيت لو لم أرها في حياتي،  وأسأل الله أن يعزك من عنده بدون شهرة”. قد تكون الشهرة هبة لمن وفقه الله وأخلص النية، وقد تكون اصطناعًا لشخصية مختلفة تمامًا تقول ما لا تفعل، وفي هذا السياق فقد كان أحد الأجداد عالمًا قاضيًا، وكان يقول: “انظروا إلى أقوالي ولا تنظروا إلى أفعالي”، وهي مقولة معروفة عند أهل العلم مفادها أن العالِم ينقل العلم كما هو وكما أنزله الله، لكنه هو بذاته بشر قد يخطئ، وقد أنكر البعض عليه مقولته تلميحًا إلى أنه لم يقل كذا إلا لأنه يعلم أنه مخطئ في أفعاله، وكما يقول المثل الحجازي: “اللي نحبه نبلع له الزلط، واللي نكرهه نتمنى له الغلط”، ولا بأس أن تقول الحق وتعلم أنك تخطئ، لكن ما أتحفظ عليه هو أن تقول الحق وتظن أنك على حق في كل أحوالك.

وبما أن التدوينة ماشية في الطريق المنحدرة فقد قررت أن أكمل الطريق والأجر على الله، راجية أن يتوب علينا من الشبكات الاجتماعية ومن تطبيقات التوصيل، لقد أصبحت تطبيقات التوصيل متغلغلة في حياتنا بشكل غير طبيعي، وصرنا نستثقل الخروج لإحضار وجبة من المطعم ونستكثر المسافة والوقت والجهد ونطلب من تطبيقات التوصيل التي أصبحت تستنزفنا بأسعار غير مقبولة تزيدها على سعر الوجبة بالإضافة إلى سعر التوصيل. كما أنهم يأخذون نسبة لا يستهان بها من المطعم نفسه، عدا عن أن الطلبات المسترجعة التي لم يدفع ثمنها أصحابها فإن صاحب المطعم (والعُهدة على الراوي) هو من يتحمل كلفتها. كلما فكرتُ في الأمر أستشيط غضبًا، وأفكر: ألا يخافون الله! أعرف أنني أتحمل المسؤولية كاملة عن قراري بالتعامل معهم، فقد أصبحت هي والشبكات الاجتماعية بمثابة طوق ملتف على رقابنا لم نتخلص منه حتى الآن.

أتذكر تلك السنوات التي حذفتُ فيها تطبيق “وتساب”، كان الكل يتعجب من ذلك، ربما فاتتني أشياء لكنها ليست بتلك الأهمية، وعندما أعدتُ تحميله بعد سفر الأولاد كان الأمر معقولاً، فقد اعتاد الناس عليه، وفقدوا شغف المشاركة والتواصل الذي هو تواصل لكنه ليس بتواصل، ربما هذه أحد أهم سلبيات شبكات التواصل الاجتماعي، فقد أغرقت الناس بما فيها ومن فيها حتى ملّوا، ككل الأشياء التي تزيد عن الحد.

اليوم استمعتُ إلى فيديو عبر اليوتيوب يقول صاحبه: “نحن لدينا خلط بين الانبساط والسعادة، فالفلوس والأكل والسفر والعيلة هذه كلها انبساط، لكن السعادة شيء آخر، الفرق بينهما أن الاستمتاع شعور ناتج عن مؤثر خارجي مرتبط بالحواس، وبمجرد زوال العامل الخارجي يزول الاستمتاع، أما السعادة فهي شيء داخلي مرتبط بالحالة الذهنية والروحية للإنسان، وتكون في السكينة وراحة البال والتحكم في الأفكار التي تتوارد على دماغك، أن يكون عندك مرجعية ثابتة، وتصوُّر عن العالم والأحداث التي تدور حولك.” هناك تفاصيل أخرى في المقطع أحب أن أحفظها عندي لأعود إليها وقت الزحلقة.

وعلى سيرة الزحلقة كنتُ أظن أنني فهمت الدنيا، وألا شيء يمكن أن يهزني بعد الآن، فقد مررتُ بأشياء صعبة متتالية مرّنت قدرتي على التحمّل ومدّتني بقوّة ودروع ضد الصدمات، فإذا بحدَث صغير يجعلني أنهار وأنام باكية كطفلة صغيرة، والمشكلة أنه أمرٌ مؤلم لكنه ليس بتلك الصعوبة التي تجعلني أنهار. لا أستطيع أن أفصح عنه لكنه أشبه بذلك الموقف وأنا فتاة مراهقة لما قررتُ تطويل أظافري وبردها مثل كل البنات، فإذا بي أستيقظ ذات يوم وقد وجدتُها مقصوصة عن آخرها من قبل أختي التي كانت ترى أن الأظافر الطويلة تخبئ الوسخ تحتها فقررت أن تقصها لي وأنا نائمة. قصة تافهة لكن تقهر! تذكرتُها لما قرأتُ هذه الفقرة من مدونة عثمان الشمراني: ” الحياة لا تتوقف عند ألم، ولا تزخرف بأفعال طيبة وحدها، بل تدار بصراع دائم مع الموج، هي بحر متلاطم الأمواج، يخفي في أعماقه ما لا تدري خطورته، تظن نفسك سباحًا ماهرًا حتى تجرّك التيارات فجأة إلى هاوية لا مخرج منها”. من هنا تأكدتُ أنني لستُ ضد الكسر أبدًا.

ومن باب الأخبار الجيدة فقد انتصرتُ في معركة أخرى، وهي معركة الآيباد، إذ استطعتُ أن أمنع ابنتي من استخدامه منذ أكثر من شهر وأسأل الله الثبات. والسبب أن الأشياء التي تتابعها تبتكر مواقف لم تتعرض لها ابنتي بعد، وتريها طريقة التصرف بسلوكيات غير لائقة، ثم هناك من يأتي ليقوّم هذا السلوك، لكن ما يرسخ بذهن الطفل هو السلوك الأول السيئ، ثم تتابع المواقف المختلفة والسلوكيات الخارجة عن أصول الأدب والاحترام وهكذا تتولد ذاكرة مليئة بالتصرفات التي لا أريد لابنتي أن تتبناها. قد يبدو ذلك كالمثل القائل: “اللي ما يقدر على الحمار يتشطّر على البردعة”، وهي مفارقة صحيحة لكنني أنوي أكل العنب حبة حبة. المشكلة أن المدرسة الآن تطلب من الطفل حل الواجبات عبر منصة رقمية قد أضطر فيها لإعادة الآيباد لها، لكن تلك ستكون معركة أخرى.

5 رأي حول “معارك

اضافة لك

  1. مقالة أفصحت عن بعض مشاعري تجاه السوشيال ميديا..

    لكن: “لكن ما يرسخ بذهن الطفل هو السلوك الأول السيئ” هل هذا مؤكد 100%؟ لأن أحد قنوات الكرتون تستخدم هذا الأسلوب في توعية الأطفال الصغار وأخشى أن يؤثر بشكل سلبي على أطفالي.

    Liked by 1 person

    1. في الحقيقة أنني استخلصت الفكرة من ملاحظتي لابنتي وليس من دراسة علمية، لكن بحثت وبعض الدراسات تؤكد أن التقليد يتم عند تكرار مشاهدة السلوك مع غياب التوجيه، وأحيانًا تؤثر على الطفل في سن لاحقة عندما يكبر قليلاً خاصة عند مشاهدة محتوى عنيف .

      إعجاب

  2. شكرا لمشاركتنا تجاربك ومشاعرك❤️❤️

    أعرف إحدى الأمهات ضبطت ايباد طفلها بأن يشتغل لمدة ساعة واحدة في اليوم ثم ينطفئ ولا يُفتح إلا في اليوم التالي، ولا يَسمح للطفل بتحميل أي لعبة إلا بعد وصول تنبيه للأم على جوالها -أعتقد- وسماحها بالتحميل، المقصد ربما تجدين طريقة لضبط استخدام ابنتكِ -حفظها الله- للآيباد.

    إعجاب

اترك رداً على غير معروف إلغاء الرد

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑