تأملات (3)

(1)

ثمانينات

قبل أسبوعين دُعيتُ ووالدي وإخوتي إلى بيت أحد أصدقاء والدي القدامى. بالأصح أخ صديق والدي المقرّب، ولأن الروابط التي تربطنا بهم مختلفة، من الجدة والأخوات والإخوة وزوجاتهم، وجلها مع والدي وأمي وأختي الكبرى، وبسبب الهوّة التي أصابت العلاقات الاجتماعية من أواخر التسعينات والتي بلغت أوجها أثناء فترة كورونا، فإنني وأختي وابنتي لا نعرفهم، وقد أتت الدعوة تكريمًا لذكرى والدتي، رحمها الله.

توقعنا وجود جميع أفراد العائلة على امتدادها العامودي والأفقي، لكنها لم تكن كذلك، فقط الزوجة والأبناء وأزواجهم والأحفاد، وهكذا كان العدد مناسبًا كي نتعرف على بعضنا، ونتبادل الأحاديث بشكل جماعي دون أن ينفرد كل اثنان أو ثلاثة بأحاديث جانبية.

أثناء خروجي كان إحساسي بأن هذه الجلسة ليست من زمننا طاغيًا، فقلت لهم أنني منذ زمن بعيد لم أشعر بنفس هذا الشعور في أي مجلس حضرته، فهل وحدي من أشعر بذلك؟

وافقوني قائلين أنهم هم كذلك اقتصرت جمعاتهم على الإخوة والأخوات والأطفال.

(2)

شجاعة أم جنون؟

اشتركتُ في نشرة عبدالرحمن جابر البريدية، وأنا ممتنة لمدونة فؤاد الفرحان التي عرفتني بها، أقتطف منها هذا الجزء:

” يُنسب تأسيس مالطا بهويتها الحالية إلى فرسان القديس يوحنا (أو فرسان مالطا)، الذين حصلوا على الجزيرة من كارلوس الخامس، ملك صقلية، وبمباركة الكنيسة. قصتهم مثيرة، خصوصًا عندما تعرف أن هذه الرابطة التي بدأت كقوة عسكرية ودينية تحولت اليوم إلى منظمة تملك صفة مراقب في الأمم المتحدة، ولها نظامها الخاص، وتصدر جوازات سفر لأعضائها حتى الآن. العالم غريب، وأي فكرة مهما بدت عجيبة (او حتى مجنونة) يمكنها أن تعيش عقودًا طويلة إذا وجدت ظروف مناسبة.”

ما هي الفكرة المجنونة التي تستغرب بقاءها عقودًا طويلة؟

 أما الفرحان فقبل مدة نشر قوانينه الخاصة في التواصل مع الناس. قد تبدو الحدود التي نضعها لأنفسنا في علاقاتنا مع الآخرين مبالغ بها، وقد تعلمتُ مرة أن من الأفضل لنا أن نحتفظ بها بيننا وبين أنفسنا، فإظهار الشجاعة النفسية يثير حفيظة الآخرين، بل ويسمح لمن هم أقل صلابة في استغلالها على نحو بشع يؤذي صاحبها ويزعجنا.

(3)

نوادر

في مواقف ما تكون المسؤولية أكثر تعقيدًا مما نظن، فلا يكفي قيامك بالواجب، ولا بما يمليه عليك مكانك وموقعك، ولا بما يطلبه منك المدير أو الطبيب أو الوالدين، أن تكون مسؤول يعني أن تتحمل عواقب أفعالك الناتجة عن تحملك للمسؤولية. فهناك الأوامر التي يجب تنفيذها، وهناك الشخص المسؤول عنه الذي يجب أن توازن بين مسؤوليتك تجاهه وبين احتياجاته وظروفه، وهناك الآخرين الذين يريدون أشياء تخالف ما أنت مسؤول عنه. وهناك قراءة الحال والموازنة بينها وبين الحدود، وهناك رغبات وأماني وأحزان وآلام يجب أن تسيطر عليها. وبين هذا وذاك يسخر لك الله من يعينك ويدعمك ويضغط على نفسه حتى تقوم بمسؤوليتك على أتم وجه.

في كتاب قواعد نبوية للصحة النفسية للدكتور ماجد الحبيب، تقول القاعدة التاسعة والعشرون:

لا تعجب حين ترى التناقضات العريضة في البشر، فالموفقون نوادر.

استنبط القاعدة من حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: “تجدون الناس كإبلٍ مئة، لا يجد فيها الرجل راحلة”. وقد شرح الحديث قائلاً أن المستقيم من الناس في دينه وخُلُقه قليل، كما أن الراحلة قليلة في الإبل، فما كل بعير يصلح أن يكون راحلة بل يجب أن يروّض ويعوّد على حمل الأثقال.

(4)

بدون كلام

غريب الموت، يغيّر نظرتك للأمور بدون كلامٍ!

لا أود أن أكتب عن أمي، لأنني لا أريد أن أتخلص من مشاعري تجاه ما حدث. لكن هناك نوعان من النمو والتطور في الحياة، نوع صوته صاخب، وألوانه برّاقة وواضحة، ونوع آخر لا يحظى بتغطية إعلامية، ولا يصاحبه تصفيق، ذلك الذي يحدث بهدوء، رغم الحزن الدفين، ورغم الضياع، إلا أنك رابط الجأش، تتوق إلى شيء أعمق وأكثر ثباتًا، شيء يشبه العودة إلى الذات.

6 رأي حول “تأملات (3)

اضافة لك

  1. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم…. صدمتُ من الخبر في آخر التدوينة.
    الله يرحمها ويحسن إليها ويؤنسها ويغفر لها ولكل موتى المسلمين.

    الله يصبر قلوبكم

    إعجاب

اترك رداً على رياض إلغاء الرد

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑