جَلَد

ساعات وأنا أجلس أمام الصفحة التي تحتوي على مقتطفات لعلها تساعدني في كتابة شيء يخفف عن كاهلي بعض المشاعر المبهمة، لكن المؤذِّن أذّن للصلاة، سأضطر لقطع تأملاتي والذهاب لأداء الصلاة، ثم للمطبخ لطبخ الغداء. نويت أن أطبخ مكرونة بالصلصة البيضاء، وبجانبها شوربة خفيفة لابنتي التي انتقلت إليها عدوى الفايروس الغريب الذي أصابني الأسبوع الماضي، ومن أعراضه صداع خفيف، مع ارتفاع في درجة الحرارة بشكل أساسي مما يسبب الإنهاك.

ولأن ابني سبقنا في المرض فقد بحثتُ عن وصفة شوربة خفيفة للزكام، لم أجد ما يناسبني تمامًا لكنني أخذتُ أفكارًا من هنا وهناك أهمها أن تضع فيها زنجبيل طازج وبصل أخضر وفصوص ثوم كاملة بالإضافة إلى نصف ليمونة تُترك لتطبخ على نار هادئة مع الدجاج والخضار التي تم تشويحها في قليل من الزيت قبل وضع المطيّبات والماء الساخن.

أحيانًا تمر عليّ أوقات أشعر فيها بمشاعر غريبة، ربما كان ما قرأتُ عنه ويسمى بالإرهاق الصامت، وأحيانًا يسمى ” الاحتراق النفسي الهادئ“، يصفونه بأنه حالة من الإرهاق العاطفي والجسدي والعقلي تتميز بأعراض مثل ضبابية الدماغ وصعوبة التركيز والنسيان، والشعور بالفراغ والتسويف، وفقدان الاهتمام بالهوايات أو المشاريع الجديدة، والشعور بالإنهاك رغم قلة الإنجازات.

ومن جهة أخرى فهو زُهد المُتعَبين، وقناعة العازِفين، وإخبات من ليس له حولٌ ولا قوة.

بحثت عن شيءٍ أقرؤه بعيد عن هذه الدنيا، فوجدتُ في مكتبة بيتِنا كتابَين، أحدها كان كتاب “تُحفة الذاكرين” للإمام الشوكاني رحمه الله وجدتُ فيه ما يؤنس، وهو مجلدٌ قارب الخمسمائة صفحة، جمع فيه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بذكر الله، في فضله وأوقاته وأحواله وأوقات الاستجابة وجميع الأذكار التي وردت في الأحاديث الشريفة مقسمة في عشرة أبواب. وقد علمتُ فيه أن أفضل الأعمال ذكر الله كما ورد في الحديث: “ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقوا العدو فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله.”

وبينما أنا في تلك الحال إذ ألهمني الله وأمدني بالعزم والهمة للذهاب إلى مكة، ونحن عادة نذهب إلى مكة بالسيارة، فنؤدي العمرة ثم نعود في نفس اليوم، لكنني قررتُ أن أوسع على نفسي وأذهب بالقطار ظهرًا لأصل للفندق فأتناول غدائي وأتوضأ ثم أستقل الباص للحرم، ومعظم الفنادق أصبحت توفر رحلات متكررة للحرم المكي على مدار الساعة ذهابًا وإيابًا، أكرمني الله بأن مكثتُ يومين هناك أديتُ فيها واجبًا وقضيتُ حاجة في نفسي. ولما كنتُ قد سمعتُ درسًا للشيخ محمد المقرمي يقول: “أن بعض العلماء استنتجوا من قصة السيدة هاجر أن السعي لطلب حاجةٍ ما يجب أن يكون لسبع محاولات، فإن لم تتم فاتركها لعل الله يأتي بما هو خير منها”، فكنتُ أؤدي السعي وأنا أشرح لابنتي قصة السيدة هاجر التي تركها زوجها هي وابنها الرضيع بوادٍ غير ذي زرع، فسعت بين الصفا والمروة سبعة أشواط حتى تفجّر ماء زمزم تحت قدميها وجعل أفئدةً من الناس تهوي إليها. ثم شربنا من ماء زمزم حتى ارتوينا، وعدنا إلى الفندق عبر الحافلة المخصصة متعبين، ومنشرحي الصدر راجين القبول.

أما كتاب التنوير في إسقاط التدبير لابن عطاء الله السكندري فقد ابتدأ بفكرة أن العبد لا يصل إلى الرضا إلا بالرضا، وأن من طلب الوصول إلى الله تعالى فأهم ما ينبغي تركه والتطهر منه هو التدبير ومنازعة المقادير، وألّف في هذه الفكرة كتابًا متوسط الحجم تتجاوز عدد صفحاته 300 صفحة.

قبل أيام انكسر جزءٌ من ضرسي فذهبتُ للطبيب، الحمدلله أن المنطقة لم تكن تؤلمني لأن العصب مكشوف ولا بد من سحبه، لكن الطبيب المختص بسحب العصب انتهى عمله فتأجلت الزيارة لليوم، أنا قلقة قليلاً من الألم الذي يمكن أن أشعر به، لكنني أتجلّد وأفوّض أمري لله، وأقول مثلما كان الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز  يقول: ” يا من وسِعَت رحمته كل شيء، أنا شيء فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين”.

6 رأي حول “جَلَد

اضافة لك

  1. أصبت فيما ذكرت يا أخت… شعور متبادل، عندما تنتابنا مثل هذه المشاعرلا شي ينجينا منها سوى الذكر والرجوع الا الله، ولا حول ولا قوة الا بالله.

    Liked by 1 person

  2. أرجو أن موعد طبيب الأسنان قد سار دون آلام. ❤️‍🩹

    وأنتِ تتحدثين -أختي بسمة- خطر في بالي خاطر: هل تتألم النباتات حين تنضج وتَكبر وتُزهر؟
    ما وصفته يُشبه ما أمرّ به حاليًا، لكنني كلما أمعنت التأمل في ماجريات الحياة، أدركت أنه (النضج) ليس أكثر 👏. نتحمّل الألم لبعض الوقت، ثم نشعر بأن المعاناة اختفت! حسنًا، لم تَختفِ، لكنني تجاوزناها واتسعت لها أجسادنا وأرواحنا.

    أكبر عطاء ونعمة، أن يجد المرء السلوى في كتاب، صحيح؟ 😇

    يومكِ طيب بالمسرّات أخيتي

    إعجاب

    1. أهلا طارق
      هكذا الحياة فعلا، لكننا مع النضج نصبح أكثر تقبلا وبالتالي احتمالاً لآلام لابد منها، تهون علينا بالالتجاء لرب العالمين.
      ربي يجعل كل ذلك كفارة ورفعة في الدرجات.
      أما السلوى فبفضل الله نجدها في أشياء كثيرة، منها الكتب، ومنها رسائل أهل الجبر.

      Liked by 1 person

اترك رداً على غير معروف إلغاء الرد

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑