من جدة إلى بريطانيا، قصص دافئة.

كنا نحن البنات مجتمعين في بيت خالتي كعادتنا آخر الأسبوع، فأفصحت ابنة خالتي عن رغبتها في السفر إلى بريطانيا لمدة 3 إلى 6 أشهر لتعلم اللغة الإنجليزية. ابنة خالتي هذه التي تكبرني وأخواتي ببضع سنوات، لها دور كبير في تشكيل توجهاتنا عندما كنا صغارًا، واستمرت في منصبها غير الرسمي كموجه وقائد، فهي أكبرنا، وهي من تثق بها أمهاتنا، وهي تلك التي يعتمد عليها في المهام الاجتماعية والعائلية.  دخلت الفكرة في رأسي، واتفقنا على السفر معًا، لم تسافر هي لظرف ألمَّ بها حينها، وكان السفر من نصيبي. لم أكن قد سافرت قبلها إلا للقاهرة. ولأنني كنت موظفة فقد قررت السفر في إجازتي السنوية، ومدتها شهر واحد، للدراسة في معهد لتدريس اللغة بمدينة بورنموث جنوب لندن. كنت أدرك أن شهرًا لا يكفي، لكني أردت خوض التجربة على أي حال.

أول يوم

استيقظت قبل السادسة صباحًا وقد اكتفيت من النوم، لفارق التوقيت الفضل طبعًا لاستيقاظي مبكرًا، فمن اعتاد النهوض في حدود الثامنة صباحًا في جدة، سيستيقظ قبل السادسة بتوقيت لندن وقد أخذ كفايته من النوم وزيادة قليل.  أول يوم لي في لندن، كما هي أول مرة لي في بلد أجنبي. خرجت من الفندق الذي يقع في الطرف البعيد من شارع العرب هناك، ولأن قوقل ماب لم يكن شائع الاستخدام حينها، فقد مشيت على طول الشارع دون أن أتجه يمينًا أو يسارًا حتى لا أضيّع الطريق.  مررت بمتاجر وبقالات مكتوب عليها “حلال”، غالبًا ما يديرها باكستاني أو هندي أو أفغاني. واصلت المسير وكلما صادفت سيدة محجبة ألقيت عليها السلام. لا أدري ما السبب عدا أنني كنت أريد أن أشعر بالألفة بوجود ناس عرب في المكان. للأسف كل من ترد علي السلام أكتشف أنها ليست عربية، بل هندية أو باكستانية، لكني لم أيأس، استمريت في إلقاء السلام على كل محجبة أصادفها حتى ردت علي السلام سيدة عربية في منتصف الأربعينات من عمرها، ظننتها سعودية لكنها أخبرتني أنها سودانية. افترقنا وظللت أتمشى بين المحلات، حتى سمعت صوتًا ينادي “سعودية” فالتفت لأجد تلك السيدة السودانية تشير إلي أن أركب معهما السيارة هي وزوجها، لم أتردد وركبت السيارة بسرعة، فقد كانت تقف بانتظار أن تخضر الإشارة ولم أرد تأخيرهما. في السيارة دعتني إلى تناول الغداء في بيتهم، واعتذرت مني لأنها لم تفكر في ذلك حين تقابلنا للمرة الأولى، وقد ندمت لأنها أصبحت مثل أهل لندن الذين كانت تعيب عليهم ذلك حينما سكَنتها لأول مرة. فهي طبيبة كانت تعيش في عمان، وزوجها مهندس كان يعمل في السعودية، سافرا لندن للسياحة فأعجبتهما وقررا الانتقال للعيش بها قبل خمس سنوات.

لا أعلم ما الذي كنت أفكر فيه عندما قبلت دعوتهما للمنزل. بالأصح لم أفكر أبدًا! ومن لطف الله كانت عائلة طيبة استضافتني وتناولنا الطعام معًا ثم أعادوني إلى الفندق مع ذكريات لطيفة لأول يوم لي في بريطانيا.

 

aaron-wilson-17274

اختلاف أولويات

بعدما أنهيت ساعات الدراسة في المعهد، مررت إلى مطعم لبناني صغير لأتناول عشائي المكون من ساندويتش شاورما لذيذ. لحسن حظي، فإن هذا المطعم “الحلال” في تلك البلدة البريطانية الصغيرة، يقع على طريق عودتي من المعهد إلى منزل العائلة التي استضافتني هناك. كنا في مساء أحد أيام شهر فبراير شديد البرودة، حيث كانت درجة الحرارة تصل إلى 1 أو 2 تحت الصفر. شعرت بالدفء فور دخولي الشقة النظيفة في إحدى البنايات القريبة من وسط المدينة الهادئة، حيث وجدت سيدة المنزل تشاهد التلفاز وهي تتناول عشاءها. جلست معها وأخذنا نتحدث، وقد وجدتها فرصة لسؤالي عن الطقس في دبي، فهي تخطط للانتقال إلى هناك للعمل عدة سنوات ثم العودة إلى بريطانيا. شرحت لها عن طقسنا شديد الحرارة والرطوبة، واستفسرت منها عن سبب اتخاذها هذا القرار، أجابت أنها تنوي زيادة مدخراتها المالية، فهي ستحصل على راتب عالٍ هناك، كما أنها سمعت عن جمال دبي وتحضرها وحياة الرفاهية بها وتحب أن تستمتع بذلك.

أثارت خططها تساؤلاتي حول اختلاف الثقافات بين الشعوب، وكيف تختلف أولويات الإنسان بحسب بيئته وثقافته وقيمه التي تربى عليها. فهناك من لا مانع لديه من ترك البلد والعائلة والمجتمع المحيط بك، والانتقال إلى بلد مختلف تمامًا بتقاليده وعادات أهله وقيمهم وثقافتهم، والعيش هناك لسنوات ثم العودة لبلدك الأصلي، أو ربما الانتقال لبلد آخر غير بلدك لتكمل سنوات أخرى من حياتك هناك. بينما البعض لا يمكنه اتخاذ قرار كهذا أو حتى التفكير فيه، لأن أولويته تكون لعائلته ولبلده التي ينتمي إليها، وأكبر خطأ يرتكبه في حق نفسه هو حرمانها من هذه النعمة التي لا تقدر بثمن.

خط غرينتش

ينتهي يومي الدراسي في الرابعة عصرًا، فمررت على محل بروست حلال، وقررت شراء وجبة الغداء من هناك. لم يكن مثل البيك طبعًا لكنه كان طيب الطعم. وأنا في انتظار الطلب دخل إلى المطعم رجل في أواخر الثلاثينات، أسمر اللون وضخم الحجم. سألني باستنكار: لماذا لا تلبسين ملابس ثقيلة؟ ألا تشعرين بالبرد؟ تفاجأت لكني أجبته: بلى ولكن ما أرتديه يدفيني. أصر على أنني لا أرتدي ملابس ثقيلة بما يكفي، ثم سألني من أين أنت؟ وسألني عن الطقس في بلدي. تبادلنا الأحاديث فإذا هو من مدينة غرينتش، وسأل: هل تعرفينها؟ أجبته بنعم، استغرب من معرفتي لها لأنها بلدة صغيرة لا يعرفها معظم الناس. تذكرت أن معرفتي بهذه البلدة قديم جدًا، منذ أن كنت في الثامنة أو التاسعة من عمري، قرأت عنها في لغز للمغامرين الخمسة: تختخ ونوسة ولوزة وعاطف ومحب، فغرينتش هو خط افتراضي لحساب التوقيت، يقسم الكرة الأرضية إلى قسمين: شرقي وغربي، سمي بذلك لأنه يمر بمدينة غرينتش التي تقع جنوب شرق لندن. قدرت أكثر عادة القراءة، وشكرت الله على هذه النعمة. افترقنا أنا وهذا الشخص بعد لقاء لم يدم أكثر من 5 دقائق، لكني أبتسم كلما تذكرته. ربما لأن اهتمامه العابر كان عفويًا وصادقًا، وربما لأن وجودك في بلد غريب لا يؤمن أهله بأثر التلطف في الحديث، تجعلك أكثر تقديرًا للكلمة الطيبة وأكثر استجابة لها.

بعد أن وصلت وجبتي من البروست الساخن والبطاطس المقلية المملحة، أخذ البائع الأفغاني- وهو بالمناسبة صاحب المحل- أخذ يتحدث معي أحاديث متفرقة، إلى أن وصل بالحديث إلى عقوبة الإعدام وكيف أن الفكرة بأكملها متوحشة ودموية، فعلى حد تعبيره: “كيف تأمر الناس بعدم القتل، ثم تقتل أنت من يقوم بها؟”. ويبدو أن هذا الأفغاني المسلم الذي عاش طول عمره في بريطانيا كان يقضي وقته في مشاهدة مقاطع الإعدام على يوتيوب، ولفرط تأثره يحاول مناقشة الفكرة مع كل من يقابله من المسلمين خاصة.  ولأن مناقشة حد من حدود الله لم يخطر على بالي فلم أستطع إجابته، واكتفيت بحمل سؤاله معي لأطرحه على مختص لعله يفيدني بإجابة تشفي صدره، رغم ضعف احتمالية مقابلتي له مرة أخرى.

لماذا تضعين شالاً على رأسك؟

كان فصل اللغة الإنجليزية يتكون من طلاب من جميع الجنسيات، من تركيا وإيطاليا وهنغاريا والبرازيل وغيرها. كانت هناك زميلة برازيلية صغيرة في العمر، أظن أنها لم تتجاوز السابعة عشرة، كنت كلما حانت مني التفاتة إليها أجدها تسترق النظر إلي، حتى في وسط الدرس. استغربت ذلك منها لكني عندما عرفت السبب زال العجب. ففي آخر يوم لها معنا قبل أن تعود إلى البرازيل، اتجهت إلي وسألتني: ” لماذا تضعين شالاً على رأسك؟” هنا فهمت سر نظراتها، فهي لم تر محجبة أبدًا، حاولت إجابتها بأنني أغطي شعري كي لا يراني الرجال. لم تفهم ما أردت قوله، ظنت أنني أغطي رأسي حتى أمام زوجي وأخواني، الفكرة غريبة ولم تستوعبها. أظن أنها لن تنسى منظري وستظل تبحث وتتساءل حتى تجد إجابة تقنعها.

rendiansyah-nugroho-454059

في سنوات حياتي الدراسية والعملية، لاحظت أن الأشخاص القادمين من ثقافة أخرى غالبًا ما يكونون مختلفين عمن عاشوا طوال حياتهم في مكان واحد. وأن كثيري السفر رؤيتهم للحياة أعمق وأكثر تفتحًا ممن قضى عمره كله لم يغادر مدينته. هذا مع الأخذ في الاعتبار اطلاع الإنسان وثقافته خارج حدود الدراسة والعمل.

أين الله؟

كنت أجلس إلى طاولة الطعام في المطبخ أتناول فطوري المكون من خبز التوست، والمربى، مع كوب من الشاي وحبة فاكهة. دخل رب البيت المطبخ وسألني سؤالاً غريبًا: “أين هو الله؟”. عقدت لساني الدهشة، فلم أكن مستعدة لأسئلة من هذا النوع، ولم أعرف الإجابة خاصة أن لغتي الإنجليزية ليست جيدة بما يكفي لأستطيع أن آخذ وأعطي معه. حاولت أن أشرح لكنه خرج من المطبخ وهو لا يزال يشعر بالحيرة، ولا زلت أنا أشعر بالحزن لأني لم أستطع أن أجيب على تساؤلاته عدا أن أقنعه. صحيح أنني لست متخصصة في دراسة الشريعة أو الدعوة إلى الله، لكن أحب أن تكون لدي فكرة ما عن كيفية الإجابة على مثل هذه التساؤلات فلربما استطعت أن أنير درب شخص ما في هذه الدنيا بكلمة بسيطة.

clarisse-meyer-152689

بعد شهر من مكوثي لدى هذه العائلة، حان وقت العودة إلى بيتي. اشتريت هدية صغيرة عبارة عن حقيبة يد صغيرة (clutch) لسيدة المنزل وشال من الصوف لزوجها، وقدمتها لها أثناء مغادرتي. تفاجأت من هديتي وشكرتني عليها. يبدو أنني لم أكن الوحيدة التي تعلمت من وجودها في هذا البيت، فقد كنت مصدر دهشة لسكانه كذلك. فالمعرفة متبادلة، والأشياء تستمر بالدوران في هذا الكون ولا تفنى أبدًا.

تعلمت من هذه الرحلة أن أفكار الإنسان هي نتاج بيئته وثقافته وموقعه الجغرافي، والدليل على ذلك اختلاف الحضارات الحديثة والقديمة وتنوعها وثرائها. وتعلم لغة قوم يكون بالقراءة والسماع وتعلم مفردات جديدة كل يوم.  أما السفر فيهيئ لك الإفادة من الثقافات  الأخرى في توسيع مداركك، وفتح الآفاق لأفكارك، إذ لابد من عيش حياة هؤلاء الناس، والاختلاط بهم، والتحدث معهم، والاطلاع على ثقافتهم، والاستماع إلى أفكارهم باهتمام، وطرح التساؤلات التي تدور برأسك عليهم للحصول على إجابات تدهشك، وتثري رغبتك في المعرفة والتعلم.

هل صادفتك أثناء رحلاتك تساؤلات لم تجدي لها إجابة في حينها؟ شاركيني إياها في التعليقات 🙂

 

4 رأي حول “من جدة إلى بريطانيا، قصص دافئة.

اضافة لك

  1. حبيت كثير هالتدوينة خصوصا التساؤولات اللي توجهت لك وكيف تعاملتي معها .. جميلة هذه الذكرى والتجربة ستكون محفورة في الذاكرة ♥️

    إعجاب

  2. هذه زيارة أولى لمدونتك، استمتعت، سأعود في حملة غزو شامل لقراءة كل شيء، كل شيء حرفياً، بإذن الله 🙂

    Liked by 1 person

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑