في زحمة الأيام

البيت خالٍ معظم نهارات الأسبوع، عداني أنا والصغيرة. أجلس على مكتبي فتثور راكضة إلي مادة يدها: تاتا تاتا. يعني أمسكي بيدي لأقودك حيث شئت. فأقول لها أن ماما عندها شغل.

أصبح شغلي هاجسها الوحيد، تصحو من النوم فتقول ماما الشغه. أقول لها ماما تسوي شغل وزينة ايش تسوي؟ فترد: بيا وتعني أنها تبكي. حاولت تعديل أفكارها بأن أقول لا زينة تلعب. وهذا ما يحدث بعض الوقت. تلعب ثم تتذكر فتبكي على أمل أن أترك مكتبي وأجلس على السرير لتقفز فوقي وتضحك.

بعد يوم طويل مرت بي أختي قائلة أنها ستأخذ زينة للبحر لمدة ساعة وتعود. خرجت من البيت مسرعة فرحة بهذا المشوار غير المتوقع، ودخلت أنا إلى المطبخ لأنجز بعض المهام المتأخرة وأنا غاضبة. فقد وصلتني رسالة للتو من ابني يقول أن قياس السكر عنده 300. مع وجه دامع. ماذا تفعل الأم في هذه الحالة وابنها يبعد عنها آلاف الأميال، إلا أن تغضب؟

أنهيت مهامي ودخلتُ إلى غرفتي أفكر ما الذي سأفعله خلال المدة المتبقية قبل عودة ابنتي؟ فكرت أن مشاهدة حلقة من المسلسل ليست فكرة جيدة، إذ أتوقع أن تعود قبل أن أنهي الحلقة ولا أحب أن أقطعها فسأشعر بالسوء. كانت إحدى نوافذ المتصفح مفتوحة على أغنية جوليا بطرس “على ما يبدو” في حفل ضخم.

شاهدت الأغنية وتحول المزاج، بحثت عن أغانٍ من حفلات أخرى فلم يعجبني الجو. فقررت أن ألجأ لأصدقائي القدامى. لفت نظري مقطع من برنامج العاشرة مساءً مع منى الشاذلي لمصطفى قمر بحضور ابنه. “السود عيونه” لم تكن من أغاني المفضلة، لكن يبدو أن الحنين للماضي جعلها كذلك.

تذكرت أختي التي تكبرني بعدة أعوام، عندما رأت الحلقة رسلت لي مقطعا منها قائلة أن تيام قمر وسيم، ضحكت وقلت لها أن من الطبيعي أن يكون الأب هو محور اهتمامنا (الكرش تبعنا) وليس الابن! لم تضحك واعتبرتها مزحة سخيفة 😂

وعلى سيرة الكرش، عندما انتشر استخدام الكلمة بهذا الشكل كنت أظن أن معناها هو البطن المنتفخ، تطلق على الزوج أو الشخص المعجب به كناية عن امتلاء كرشه. نعم أعلم أن ذلك غريب، لكن هذا ما حدث. ثم علمت لاحقًا أن المقصود بها الكلمة الإنجليزية (crush) والتي تعني الشخص الذي تشعر تجاهه بالإعجاب.

فتحت المقطع ورأيت مصطفى قمر بقميص أسود وبنطلون جينز أسود، مع حزام أسود بقفل فضي. يغني بحماسه المعتاد ومنى الشاذلي تصفق سعيدة وهي تردد معه، مع لقطات لابنه يردد معه دون حماس وتخيلته يفكر: “يختي عليه أبويا حبوب ويحسب إنه لسه كوول زي زمان” ضحكت مع نفسي وفكرت أنني قد أكون مثل مصطفى قمر، وابنتي تنظر لي مثلما ينظر تيام لوالده، وابنة منى الشاذلي (ربما) تنظر لها بنفس الطريقة. والحقيقة أنني كنت متصالحة مع الفكرة، بدليل قصة الكرش، بل وكانت لحظة إدراك مسلية ومضحكة في نفس الوقت.

انتقلت إلى برنامج أنوشكا ونفس الأغنية مع مصطفى قمر وحميد الشاعري وهشام عباس. ثم هشام عباس في نفس البرنامج يغني “حبيتها” ويردد معه رفقاء جيله: قمر والشاعري وأنوشكا. ثم أثناء بحثي وجدت أغنية جديدة لهم الثلاثة مع إيهاب توفيق. تقول الكلمات:


وفي زحمة الأيام ،، تتفتفت الاحلام ،، وأرضى بقليل وبعيش

 وانده بصوت مبحوح ،، على حلم كان مسموح ،، بيعدي ما يشوفنيش

عمر اتسرق مننا ،، فين اللي كانوا هنا ،، راحوا خلاص ومافيش

وبنتظاهر بالرضا ،، ونقول نصيبنا كده ،، مع دنيا ما بتديش

الأغنية كانت من كلمات سامح العجمي، وألحان أشرف سالم، وكانت كذلك إهداء لروحيهما، رحمهما الله.

كلمات الأغنية جعلتني أتساءل: متى يرضى الإنسان عن حياته ذلك الرضا الكامل الذي لا شك فيه ولا رجوع؟

أحيانًا نعتقد أن الوظيفة المثالية أو العلاقة المثالية أو الحساب البنكي المليء بالمال سبب كافي لتحسين مستوى سعادتنا بشكل دائم. في الحقيقة تمنحنا الأمور المبهجة دفعة مؤقتة من السعادة، تتناقص مع الوقت لتعود مستوياتها لما كانت عليه قبل ذلك.

قبل فترة قرأت عن مصطلح نفسي يسمى “الحلقة المفرغة للمتعة  The Hedonic Treadmill “، وهو يعني أننا نعتاد سريعًا على ما لدينا فنفقد إحساسنا بالمتعة ونعود لحالنا قبل حصول ذلك الشيء. الأمر كذلك ينطبق على الصعوبات أو الظروف الصعبة التي تمر بنا.  فنعتاد عليها ولا تكون بتلك الصعوبة حال حدوثها.

كذلك ممارسة النشاطات المختلفة التي تجلب لنا الفرح، بعضها تدوم سعادتنا به فترة أطول من غيرها، والعامل المهم في جعلها تدوم لفترة أطول هو مقدار ما تحويه من تحديات تبعث على التفكير وبذل الجهد المناسب لقدراتنا، وكلما زاد اهتمامنا بالإشباع زاد استمتاعنا بها، وغالبًا ما تكون هوايات فنية أو رياضية أو الانخراط في أنشطة جماعية.

أما الملذات الخفيفة فهي تجلب تحسنًا ملحوظًا وسريعًا في تغير الحالة المزاجية، وغالبًا لا تستغرق الكثير من الوقت والجهد، لذا فإنه عندما تكون مشغولا أو لا تملك الوقت ولا الطاقة لممارسة الهوايات أو التحديات اللذيذة فإنه سيكون لديك الوقت دائمًا لسماع موسيقى تحبها، أو تناول قطعة من الشوكولاتة أو كوبًا من الشاي المضبوط.

عدتُ إلى عالمي مع عودة الصغيرة إلى البيت، بعد نصف ساعة من الملذات الخفيفة، ذكرتني بأوقات سعيدة من حياتي، عندما كانت أبواب الحياة مشرعة، ولا يشغل بالي حينها إلا كيف نستمتع أكثر في الإجازة الصيفية. لا يعني هذا أنني أرى الحياة أغلقت أبوابها، لكنني أظن أنني اكتفيت من المغامرات حاليًا.  

 أطفأت الكمبيوتر، وأخلدتها للنوم. بعد أن نامت فكرت أنني بحاجة إلى فيلم مثل: “It’s Complicated” كي تستمر حالة الروقان التي عشتها، لكنني لم أجد فنمت وأنا أعد نفسي بالانتباه أكثر لما يدخل على قلبي السعادة والفرح وإن استمر فقط لدقائق قليلة.

4 رأي حول “في زحمة الأيام

اضافة لك

  1. أعتقد أننا في النهاية سنحتاج بالفعل لكتابة قوائم فيما نحب وما يسعدنا وما يعطينا مزاج أفضل، نستصعب الفكرة ولربما نخشى أن تقع في يد أحد، ولكن بدأتُ أفكر بجدية ما المانع من التجربة؟
    بدأتُ في كتابة قائمة امتنان للحظات الثمينة التي حصلتُ عليها وأجد الأمر لطيف إلى حد غير معقول رغم أن القائمة لها ثلاثة أسابيع أو أقل ولحظاتي الثمينة فيها لا تتعدى السبع، لكن بمجرد استحضارها أشعر بحب يحول تيار أفكاري تلقائيًا🥰
    رغم أن تجربة القائمة فيما أحب وأكره كانت أصعب مما تخيلت، والحق أني لم أحاول أكثر؛ هل جربتِ يا بسمة؟ جربي الأمر غريب وباعث على التأمل والتدقيق أكثر في لحظاتنا…
    يحفظ لك الصغنونة، ويسعدك💚

    إعجاب

    1. كتابة قائمة الامتنان جربتها وفعلا يصاحبها تحسن فوري وملموس. أما الأشياء الممتعة ما جربت أكتبها كقائمة، لكني أحاول أوثق أيامي السعيدة في دفتر اليوميات. فالقائمة أعتقد رح تسهل التطبيق.
      ويخلي لك أحبابك ويملأ حياتك بالحب أسماء💚 شكرا على المشاركة.

      Liked by 2 people

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑