عندما ذهبت وابنتي إلى الفراش أول أمس، وبينما كنتُ أقرأ مع التسجيل الصوتي للأذكار ، وأتظاهر بالنوم كي تنام الصغيرة بجانبي، إذ خطرت ببالي كلمات الأغنية:
عندي بيت براس الجرد
وجرة مية وحقلة ورد
وعلى صوت الحسون بحس
فأمسكتُ هاتفي على عجل، وسجلت كلمات الأغنية والفكرة التي خطرت لي بشأن المشروع الجديد.
ظلت كلمات الأغنية معي أثناء اليوم، وعندما تحضرت للنوم بالأمس خطرت لي كلمات أغنية أخرى، لا أدري إن كانت من نفس الألبوم لوائل كفوري أو من ألبوم آخر، المهم أنها كانت من نفس تلك الحقبة الزمنية التي كنا نستمع إلى أغاني وائل كفوري باستمتاع ونستحضر جو الريف في لبنان، ورائحة كروم العنب وشجيرات الزيتون، وإحساس الليل والرعد والبرد والريح، والثلج المكوّم على الطرقات والنوافذ والبيوت، والعتمة والسكون الذي لف الكون في تلك الضيعة المنسية.
كانت الكلمات الأخرى تقول:
بيقولوا لبسها لولو ،، وحرير وخاتم ألماس
وعم بيقولوا شمعة طولو ،، ضوى بعيدها وخدها باس
فأمسكت هاتفي لأقرأ كلمات الأغنية لليلة الثانية على التوالي، وصحوتُ اليوم والكلمات ترن في عقلي فشغلتُ الأغنية أثناء تناول الإفطار. ولم أدرِ لم أثر بي هذا المقطع تحديدًا:
ويقولوا لي نسيت حبي
حبي إلها ما بينقاس
امتلأت عيني تأثرًا، تذكرت أبنائي الذين سافروا للدراسة قبل أسابيع، ولم يعتادوا بعد، ولا أنا كذلك، على الحياة بعيدًا عنا. هل هذا من أعراض متلازمة العش الفارغ (Empty nest syndrome)؟
تشير متلازمة العش الفارغ إلى الحزن الذي يشعر به العديد من الآباء عندما ينتقل أطفالهم من المنزل. عادة ما تكون هذه الحالة أكثر شيوعًا عند النساء، اللائي من المرجح أن يكون لهن دور مقدم الرعاية الأساسي. على عكس الحزن الذي نشعر به عندما (على سبيل المثال) يموت أحد أفراد أسرته، غالبًا ما لا يتم التعرف على الحزن الناتج عن متلازمة العش الفارغ، لأن خروج الطفل البالغ من المنزل يُنظر إليه على أنه حدث طبيعي وصحي. قد يجد الآباء المستاؤون القليل من مصادر الدعم أو التعاطف. وتتفاقم متلازمة العش الفارغ إذا صاحبتها أحداث الحياة الصعبة الأخرى أو التغييرات المهمة التي تحدث في نفس الوقت تقريبًا، مثل التقاعد أو انقطاع الطمث.
في الحقيقة لم أنتبه أبدًا إلى كون هذه المسألة لها اسم، إلا عندما شاهدت حلقة من مسلسل (ذا جود وايف The Good Wife) ، عندما حان وقت ذهاب زاك للجامعة، فكان الناس يسألون أليشا والدته عما إذا كانت تمر بهذه المرحلة.
زمان في المدرسة كنا ندرس طريقة حل المشكلة، وكانت الخطوة الأولى من حل المشاكل هي معرفة المشكلة أو تحديدها بالضبط، وكنت أفكر أن هذه الخطوة غبية، أو بديهية على أقل تقدير، فكيف سأحاول حل مشكلة إذا لم أكن أعرف ما هي؟
اتضح خطئي الآن. فأنا أعرف أنني إذا سميت الأشياء بمسمياتها الحقيقية تصبح الأمور أسهل. إذ ما عليك إلا البحث بالكلمة الصحيحة وستجد مئات الصفحات التي تشرح لك الأسباب والمسببات وطرق الحل، بدل الضياع في صفحات البحث الأخرى. وهنا نقول كما قال الأستاذ عابد خزندار: “اليوم وقد قاربتُ الثمانين، وجدت بعد أن مرت علي أحلك الظروف، أن كل مشكلة لها حل، فلا تقلق”.
ويقولوا تركتني بغربة ،، تتسقيني مر الكاس
وزرعوا مية شوك بدربي ،، وبراسها مية وسواس
ويقولوا شو ما بيقولوا ،، شو بدنا بكلام الناس؟
السؤال المهم الذي طرأ علي بعد سماع هذه الكلمات هو: هل سنحت لك الفرصة للتعويض عن أخطائك التي اقترفتها بحق أحبائك؟
أحيانًا تجد من الصعب عليك العفو، لا تستطيع وإن حاولت. المسامحة والغفران من أفعال الكبار، لا يقدر عليها إلا كبير النفس واسع الصدر سمح النفس صافيها. ومع ذلك هو فعل صعب إن صدر الذنب العظيم ممن تأمن جانبه.
لكن إن كنت أنت الطرف المذنب، وعجزت عن طلب الصفح، أو طلبته بصدق، لكن ذنبك أعظم منك ومن عذرك، رغم الألم الذي يعتصر قلبك بسبب الأذى الذي ارتكبته عن حماقة، أو عدم الشعور بالأمان، أو عن رغبة متوحشة، أو ظن سيء، أو قصر نظر، أنت هنا تعذر الآخر لعدم غفرانه، لكنك تحاول، بطيب الكلام، وبلين الجانب، وبالبذل، وبكل ما يمكنك فعله لمسح الخطأ. لكن لا زالت الجفوة الضئيلة البسيطة التي لا يشعر بها غيرك أنت وهو قائمة.
ثم تتغير الأحوال فجأة، أحوالك، وأحواله، وتتهيأ لك الفرصة لتذيب الثلج، وتزيل كل ما بالنفس من أذى ومن جفاء بفعل أنت مجبول عليه، أتى في الوقت المناسب، وتحت الظرف المناسب، فتفعل ما بوسعك، من كل قلبك، فتجبر القلوب التي شرخت، وتليسها وتضربها بوية لتعود كما كانت. وربما فاق فضلك ذنبك، فأصبحت أنت المقرض وهو مدينٌ لك بكل ما هو حسن وطيب وجميل.
إذا سنحت لك تلك الفرصة فأحسن اغتنامها، لأنها لا تسنح لكل من هب ودب، وإنما للصادق المقر بذنبه المحسن فيما بينه وبين ربه، فإذا كنت أنت فهنيئًا لك الصفح والغفران وطيب الذكر.
لا تعطي بعد المسافة فوق منزلتها، فالفعل الطيب يبقى ويظهر ويؤتي ثماره ولو كنت على بعد آخر نقطة على هذه الأرض.
مدونة رفاق 
أضف تعليق