صباح الجن والعفاريت

هل تذكرون مقطع الفيديو الذي يقول فيه رجل لرجل مسن: صباح الخير يا عم، فيرد عليه الشيخ ب: صباح الجن والعفاريت؟

دائمًا ما أضحكني رد الشيخ، ربما لأنني أفهم تمامًا تلك الحالة التي يكون فيها صباحك صباح الجن والعفاريت، فهو يتميز بالوجوم، وبالغمامة التي تظلل الرؤوس، وبالردود المقتضبة، والرغبة بالانتهاء من الأمور اليومية الواجبة بأسرع وقت، قبل أن تنفجر بثورة على أتفه سبب.

أما الصباح الذي كان يسيطر على أيامي الماضية، فكان يبدو كصباح الجن والعفاريت، لكن ما إن يسألني أحدهم عن حالي وأجاوبه بهذا الرد، حتى ننفرط في الضحك معًا ومنه يتحول لصباح جن وعفاريت مضحك ودمه خفيف.

هذه الأيام اكتشفتُ اكتشافًا لم يعجبني. اكتشفتُ أننا في الحياة نمر بدورات متكررة، دورات طويلة المدى تقدر بسنوات كثيرة، هذه الدورات تبدأ مع الفترات الانتقالية في حياتك، عندما تسقط في فخ الروتين والحياة المملة الفارغة، والأيام المتشابهة، وفقدان الشغف وضياع الوجهة. أو عندما تحدث تغيرات حادة في حياتك تجبرك على التغيير قسرًا، وبعد أن ظننتُ أنني وصلت لبر الأمان، وجدتُ نفسي في وسط البحر مجددًا. لقد تجاوزت الأربعين ولا زلت أشعر بكل هذه المشاعر المحيرة والمحبطة.

في مقالة قرأتها بالأمس على موقع فوربس كتبتها سيدة تجاوزت الستين، علمت منها أن المراحل الانتقالية في الحياة دائمًا ما تكون صعبة، وأن الحواجز والصعوبات ستواجهك في كل مرحلة انتقالية تمر بها، حتى تلك المرحلة الانتقالية التي يمر بها من يصلون لعمر الستين، ويتوقعون أن تكون الحياة بعدها عبارة عن إجازة طويلة؛ لكنها في الحقيقة قد تكون التغيير الأكثر صعوبة في حياتك ككل. ولكي تعيش هذه الفترة برفاهية عليك فهم 4 أمور:

  1. أن تفهم أن سن الستين هو بداية جديدة لك.

نحن ننظر للحياة بشكل عام أنها رحلة واحدة تصعد فيها حتى تصل لذروة الشباب، ثم تبدأ بالهبوط المستمر حتى النهاية. بينما في الحقيقة الحياة دورات متكررة الحدوث، إذا فكرنا أن كل دورة في حياتنا هي بداية جديدة، وكل دورة لها ظروفها وأهدافها ومميزاتها، إذا انتبهنا لهذه الفكرة فإن نظرتنا لحياتنا ستكون مختلفة، وواعدة. من المهم أن تحدد نقطة البداية الجديدة وتمنح نفسك وقتًا للتفكير في معنى وغرض جديد لحياتك، وتجد بوصلتك التي تحدد اتجاهك وأهدافك لعيش حياة جيدة وثرية.

٢. أن تعيش حياة جيدة في السنوات القادمة من عمرك.

ببساطة أن تعتني بنفسك. بصحتك الجسدية والنفسية، بأكلك ونومك وشربك وحركتك. تقليل الكافيين، وممارسة الرياضة والحفاظ على علاقات جيدة مع الآخرين، ونظرة إيجابية للحياة.

٣. أن تمارس شيء تجيده ويضيف معنى لحياتك.

قد يكون من الصعب إيجاد هواية أو نشاط تجيده ويجعلك سعيدًا، إذ ليس من السهل بعد 30 أو 40 عاماً اكتشاف مواهبك ناهيك عن تطويرها. لكن بعضهم قد وجدوا بالفعل هواية أو شغف يملأ أوقاتهم مثل البستنة أو الحياكة أو التطريز أو صناعة الفخار. فكر بأشياء كنت جيدًا فيها في أيام المدرسة أو الجامعة أو بين عائلتك وأقرانك، وابدأ باستعراضها واحدًا واحد حتى تجد ما تعتقد أنك تستمتع به. حاول الانضمام إلى مراكز أو مجموعات تهتم بما تهتم به وانخرط معهم في تعلم الجديد وصقل المهارات.

٤. أن تقدم قيمة للآخرين.

شرح جوناثان راوخ في كتابه المنشور مؤخرًا بعنوان “منحنى السعادة” أحد الأسباب التي تجعل العشرين الثالثة من العمر هي “ذروة الحياة”، فقال أنه خلال عملية الشيخوخة يبتعد الناس عن المنافسة الفردية والطموح ويميلون نحو العلاقات الاجتماعية الجيدة ورعاية الآخرين. إذ أنه ومع تقدم العمر تتطور القدرة على تجاوز التركيز على الذات والتوجه لتقديم العناية بالآخرين من الأجيال الأصغر والأكبر سنًا. لذلك من المهم أن تملأ حياتك بالأنشطة التي تمنحك الرضا الشخصي. إذ يكون هناك شعور إضافي بالرضا عن معرفة أنهم لا يزالون بحاجة إليك وأن كل الخبرة والمعرفة التي اكتسبتها خلال الحياة لا يزال من الممكن استخدامها لتقديم قيمة للآخرين.

تلك كانت ترجمة للمقال بتصرف، ومنذ عدت للاطلاع والبحث والاهتمام بشيء ما غير الأعمال الروتينية شعرتُ بتغيير كبير، فالتفكير بالبدايات الجديدة خيار أكثر منطقية وأكثر بهجة من التفكير بأننا نسير نحو النهاية.

أثناء قراءاتي انتبهت إلى أن لنا أدوارًا في هذه الحياة، علينا أن نقوم بها على أكمل وجه، على الطالب أن يستذكر دروسه، وعلى الأم أن تعتني ببيتها وأطفالها ونفسها، وعلى الموظف أن يقوم بمهام عمله بإتقان، علينا أن نحيي يومنا وأوقاتنا بأعمال مفيدة وتضيف لنا قيمة، ومهمتنا الأسمى أن نجاهد لنشعر بشعور أفضل في الأيام الحالكة. أما عني فإني ما إن أشغلت فكري حتى بدأت تتفرق تلك الغمامات الصغيرة التي تطوف على رأسي مؤخرًا. وتذكرتُ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها”. وفكرتُ أن العمل والقيام بما كُتب علينا من مهام وأعمال هو لأجلنا في المقام الأول. لكي تطيب حياتنا قبل أن تطيب حياة غيرنا. لأجل صحتنا النفسية قبل أي أحد آخر.

صباح الجمعة الماضي وكعادة صباحات الجمعة قمتُ بتحضير حشوة الساندويتشات المكونة من مايونيز وتونة وقطع الخيار الصغيرة وعصير الليمون. قبل أن أقطع الليمون أقوم بتدليك حبة الليمون الكبيرة بقوة على سطح الطاولة، كي تصبح طرية وأسهل في العصر، ثم أعصرها فوق المصفاة بقوة، أعصرها حتى لا يتبقى ولا قطرة عصير داخل الليمونة، أحيانا أشك في كفاية الكمية التي عصرتها، فأعصر نصف ليمونة آخر لكن على الخفيف، حتى أصل لدرجة الحموضة المطلوبة لا أكثر ولا أقل.

تعصرنا الحياة مثل الليمون، قد تكون عصرة خفيفة، ثم تتركنا وتمضي لغيرنا، وأحيانًا تعصر، وتعصر وتعصر حتى تظن أنه لم يبق فيك ولا قطرة، لكنها لا تزال ممسكة بك، ومحكمة قبضتها عليك. هذا ما يسميه الناس عنق الزجاجة، أو أحلك الظلمة التي تسبق نور الفجر بوقت قليل.

في ذلك الصباح كنت في مزاج رائق، أتحدث وأضحك وأمازح الأولاد، ثم هاتفت أمي فسألتني عن حالي اليوم؟ فقلت الحمد لله، فطرنا معًا، وأولادي كلهم حولي، وها أنا أهاتفك الآن، فهل هناك نعمة أكثر من كذا؟

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑