دع القلق وابدأ الحياة

كانت أيامي قبل رمضان تبدأ في وقت مبكر نسبيًا بسبب استيقاظ الصغيرة وإصرارها على بدء يومها بزجاجة حليبٍ دافئ، ونزهة صباحية مع والدها. إذ أنه كان يستأذن من عمله ليصل إلى البيت في العاشرة ويأخذ زينة معه لأي متجر كبير قريب أو مول. ويبدو أنه وابنته أصبحا مشهورين في الأماكن التي يذهبان إليها، فقد كان يتركها تجري وتلعب وتعبث بما يلفت نظرها من أغراض معروضة للبيع لا اللعب.

في أحد أيام رمضان أصر على ذهابي معهما إلى الصيدلية الكبيرة التي خصصت الطابق العلوي لمنتجات الأطفال، ووضعت بعض الألعاب والقصص ليستمتع بها الأطفال أثناء تسوق الوالدين. انطلقت ابنتي تجوب المكان المألوف بحرية، ورحت أبحث عن ضالتي بين منتجات تصفيف الشعر. عندما توجهت للمحاسبة وأدخلتُ رقم زوجي الذي نستخدمه في جمع نقاط المكافآت تفاجأت موظفة المحاسبة وسألتني باندهاش: أنت أم زينة؟ قلتُ في داخلي: ياربي انفضحت، ثم أجبتها بابتسامة أن نعم، فقالت بما معناه أنها تفرح لرؤيتها تنطلق هنا وهناك بينما يسير خلفها والدها وهي غير عابئة بما يمكن أن تسببه من فوضى وحوادث بسيطة في الأغراض والممتلكات.

من بعد رمضان لا زال وقت استيقاظنا متأخرًا، إذ يئست الصغيرة من استمرار عادتها الصباحية في البحث عمن ينزهها خارج البيت دون جدوى، ففضلت أن تشبع نومًا وتستيقظ على مهل. أستيقظ معها أو قبلها بقليل لنتناول الإفطار مع بقية أفراد العائلة.

كنتُ دائمًا أفكر في العبارة التي تقول: “من يحبه الله يحبه الناس”. وأغبط من أرى فيه هذه الصفة، إذ أنها هبة غالية من رب العالمين. اليوم أفكر في نفس الفكرة لكن طريقة التفكير اختلفت، فصرتُ موقنة أن العبرة ليست بالظاهر، وأن هناك تفاصيل معقدة للأمور لا ندركها من مواقف الحياة العابرة، وأن تصاريف الأيام تظهر بواطن النفوس، وتجعل من يحبك يعلن حبه بأفعال لا تتوقعها. قد ترفضها إن سئلت، لكنها تأتي دون علم مسبق منك، فتتغاضى عن رغبتك الشخصية، وترى الجانب المشرق من الأمر. حب الآخرين لك نعمة لا تقدر بثمن.

في رمضان وقبله كنت أتوق إلى تغيير حياتي جذريًا. ومهنتي كانت على رأس تلك التغييرات. عندما كنت أبحث في الموضوع وجدتُ كثيرًا ممن أشار بتغيير المكان كأول وأهم خطوة. تذكرتُ تلك السيدة التي استضافتني في منزلها كطالبة أدرس اللغة الإنجليزية في مدينة بريطانية صغيرة. كانت تخطط هي وزوجها لمغادرة البلاد والعيش في دبي لخمس سنوات ثم العودة.  هذه الثقافة غريبة علينا تمامًا، فنحن مرتبطون بالأرض، وبالأهل، وبالثقافة، وبالمجتمع. هذه هي حياتنا التي يصعب أن نتركها فجأة ونغادر، ولو كان لغرض العودة بعد سنوات. يتساءل محمد عبده في أغنية اختلفنا فيقول:

“والحياة ايش الحياة إلا مشاهد ناظريك؟!”

فعلا ما هي الحياة؟ ما قيمتها بدون من نحب وما نحب؟

الأسابيع الماضية كانت مليئة بالقلق. القلق حول أمور لا حول لي فيها ولا قوة. كنت أستيقظ عند الفجر بعد نوم لم يتجاوز الثلاث ساعات، وأظل أفكر وأفكر وأفكر. ليس هناك فائدة من التفكير لكني لم أستطع منع نفسي. أمور كثيرة بحاجة إلى حل، والحل ليس بيدي. اللهم دبرني فإني لا أحسن التدبير كانت الملاذ الذي ألجأ إليه كلما ضاق فكري، فيهدأ بالي، وأطمئن إلى مدبر الأمر، استمر هذا الأمر لفترة إلى أن قررتُ: سأدع القلق وأبدأ الحياة. هذه هي تعويذتي السحرية التي قررت أن أكررها وأعمل بها لمواجهة الأمور المتشابكة، ورغم كل ذلك فأنا موقنة أن كل هذه الأعاصير ما هي إلا أسباب إلهية لبدء حياة جديدة حلوة وسعيدة.