خائفًا يترقب

أرسل لي الأولاد فيديو أمطار اليوم، يسألني ابني عن السعر المعقول لمظلة، فأجيبه أنه يجب أن يشتري مظلة الآن، ليس لديه خيار آخر. يحكيان لي عن صديقهما الذي قابلهما لأول مرة في مسجد الحي، واستمرت صحبتهم لسنوات قبل أن يسافر. إذ شاءت الأقدار أن يزورهما في بيتهما هناك، ويجتمعون معا مثلما اجتمعوا في مسجد الحي. فرحت كما فرحا بزيارته وربما أكثر، قضى معهما ليلة واحدة، وفي الصباح صنع لهما إفطارًا شهيًا من البيض بالطماطم قبل أن يغادر مودعًا إلى مدينته، تاركًا لهما ذكرى طيبة، وكثير من مشاعر الحزن على فراقه.

من على فراشه بالمستشفى قبل أسابيع، أرسل لي يقول: َ”ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات”. أنا وحيد وبعيد عن أهلي وعلى فراش المرض، مات أبي، وأنا خائف جدًا وأتألم، قلت له أكمل الآية: “وبشر الصابرين” وإننا إن شاء الله لمن الصابرين.

دعوت الله من كل قلبي أن يعافيه، ثم تذكرتُ صيغة دعاء أخذناها عن أجدادنا: “اللهم يا حافظ كنز الغلامين من تحتهما، من دون علمهما، بصلاح آبائهما وأجدادهما، احفظني من كل سوء بصلاح آبائي وأجدادي”، وتذكرت أن الله يحب أن ندعوه بأعمالنا الصالحة، فرفعتُ يدي قائلة ” يارب أنت تعلم أنه أبر أبنائي بي، اللهم اشفه وعافه وارفع عنه، واحمه من الألم والوجع ولا تجعل هذه الليلة تنقضي إلا وهو معافى وبخير حال بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين”.

لا أعلم لماذا يعتقد الناس أن عبارة: معليش سيصبحون رجال، ستهون الأمر؟ من الذي أدخل فكرة الخروج من منطقة الراحة إلى عقول البشر؟ وكيف يمكن للمرض أن يجعل مني رجلاً؟ ولماذا يجب أن أمر في مواقف صعبة ومهلكة حتى أصبح أقوى، أو أكثر خبرة؟ نحن ندعو بالأمن والأمان، وبالستر، والحياة الطيبة، أليس هذا هو مطلب معظم البشر؟ فإذا كنت تطلب ذلك لنفسك، لماذا تفترض أن غيرك لا يجب أن يطلبه لنفسه هو الآخر؟

لي صديقة توفي لها أكثر من شخص من عائلتها أثناء الجائحة، ونقلت لي ما تشعر به: الموت غير تفكيري عن أشياء كثير، خاصة معتقداتي حول الصلاح والقرب من الله.

أنا كذلك، نفس الفكرة بالضبط.

عازفة عن الخروج من البيت، ليس هنالك سبب، إلا أنه (مالي نفس). فقط أزور بيت أهلي، أبي وأمي، وإن كان مالي نفس أحيانًا إلا أنني أخشى؛ أنه قد تأتي علي أوقات؛ أتمنى فيها لو لم أفوت ولا فرصة لزيارتهما.

بالأمس احتجت لغرض ضروري من الصيدلية، وعند خروجي لاحظت ابنتي فهرعت راكضة لباب المنزل لتخرج معي، في البداية أمرتها أن تبتعد، ثم تراجعت واصطحبتها معي.

مشيت في الشارع المظلم، تزكم أنفي رائحة شواء، ليس هناك مطعم في حارتنا، لكن الرائحة كانت قوية، مشيت للشارع الرئيسي، وابنتي ترفع رأسها ناظرة للقمر، مشيرة بيدها مع تكرار كلمة “بيا” والتي تعني في قاموسها “القمر”. سيارات كثيرة، والضجيج مزعج، لكن الهواء عليل. قطعت الشارع متجهة للصيدلية القريبة، دخلت وإذا بابنتي تنطلق سعيدة، فالمكان مألوف لها، لكنها لم تأتي إليه منذ مدة طويلة، منذ وفاة والدها. تركض وهي تضحك، أسمع صوت أقدامها الصغيرة وهي تركض في الممرات بينما أخذت ما أريد وخرجت وأنا أمسك يدها بيدي.

كيف لمشوار صغير، به كل هذا الضجيج والروائح المختلطة، أن يحسن مزاجك؟ مزاجي ومزاج الصغيرة اتفقا على أن يتحسنا، فانطلقت الصغيرة تسترجع ذكرياتها مع “بابا”، وجلست أنا على الكرسي أستشعر راحة عجيبة.

كنت أحدث صديقتي عندما قلت لها أليست الدنيا هينة عند الله ولا تسوى جناح بعوضة؟ أليست الدنيا دار عمل وحرث للآخرة؟ لماذا إذن كل هذا التعقيد في الأمور؟ لماذا يجب أن أتألم؟ لماذا يجب أن أمر بظروف قاسية؟ لماذا يجب أن أكتسب النضج والخبرة والحكمة بالطريق الصعب؟ لماذا لا تكون دار عمل وخلاص؟ لماذا يجب أن تندعك أرواحنا في هذه الدنيا الفانية؟ وما الداعي لاكتساب الصلابة طالما الغرض من وجودنا بها هي عبادة الله؟

ضحكت صديقتي وقالت أن تفكيري ليس له أرضية دينية، فالابتلاءات أساسية في ثقافتنا الدينية، وأنها تتفهم منطق من يقول أن الدنيا دنيّة، وأن الإنسان خلق في كبد،  لكنها لا تتفق معه، بل تؤمن أن جنة المؤمن في صدره. وأن الحياة الطيبة ممكنة مع العزم وضبط رؤيتنا ومنظورنا للحياة.

اقتنعت قليلا، لكنني لا أحب الأمور الصعبة، لا أحب أن أتألم، لا أحب أن أعيش في قلق ولا في انتظار المجهول، بل أقتحمه قبل أن يقتحمني حتى أرتاح. لكن ليس كل مجهول يمكن اقتحامه. فبعضهم يطبخك على نار هادية وأنت تتقلقل تحت وطأته.

في تفسير الآية :” فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)”

قال ابن كثير: لما أخبر ذلك الرجل سيدنا موسى عليه السلام بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره، خرج من مصر وحده، ولم يألف ذلك قلبه، إذ كان في رفاهية ونعمة ورئاسة، (فخرج منها خائفا يترقب ) أي : يتلفت ( قال رب نجني من القوم الظالمين) أي : من فرعون وملئه . فذكروا أن الله، سبحانه وتعالى، بعث له ملكا على فرس، فأرشده إلى الطريق، والله أعلم.

لما تحصل لخبطة في حياتك من الطبيعي أن تكون متنكد وخائف تترقب. ومن لطف الله أيضًا أن ينجيك كما نجى سيدنا موسى عليه السلام. موسى قتل نفسًا عن غير قصد، وأنت ماذا فعلت؟

أسأل الله أن ييسر كل عسير، ويفرج عن كل مكروب، ويجمع المفترقين، ويعافي المبتلين، ويؤمن الخائفين، ويغفر الذنب العظيم، ويكفينا شر الظالمين.

حقوق الصورة لصاحبتها @azh_nahari

4 رأي حول “خائفًا يترقب

اضافة لك

  1. في البداية شكراً لش 😊💐

    مع العزم وضبط رؤيتنا ومنظورنا للحياة.” أنا ليا فترة أحاول أراقب أفكاري وأشتغل عليها وأحاول أضبط “رؤيتي ومنظوري للحياة” بس مش دائماً أقدر أشارك أفكاري مع أحد للأسف! والمرات القليلة اللي أتكلم وأفكر فيها مع أحد تكون مع ابتهاج ❤️💖

    فشكراً لش على هذه الفرصة 💖، ما أدري أحس إني بخرط شوية كلام 😅😬

    بالنسبة إنهم ” بيصيروا رجال” ما أحسها تمني للمرض أو المصاعب عشان يصيروا رجال بقدر ما هي إذا صار هذا الشي الصعب كيف ننظر له ونحوله لصالحنا ولصالح نمونا…الخ. أبدا مش تمني، نسأل الله العافية واللطف والسلامة ولكن إذا وقعت المصاعب إيش بيدنا غير إننا نحاول نخليها لمصلحتنا مع تمااااام تفهمي لصعوبة الأمر، وممكن ما نقدر نخلي المصاعب تقوينا إلا بعد مدة من الإنكسار والاستسلام والله يعافينا جميعاً.

    الشي الثاني موضوع الخروج من منطقة الراحة، هو ما نبغاه خروج بمرض أو شي صعب بس منطقة الراحة تختلف من شخص لآخر، يعني بالنسبة لي الحمل والولادة خروج من منطقة الراحة وأوقات أحسه صعب عليا وأوقات أتمناه، فإذا قلنا المفروض البشر ما يخرجوا من منطقة الراحة ممكن يتوقفوا عن أشياء لها معنى ولها قيمة في حياتهم مثل الأمومة، والانتقال لوظيفة أفضل أو… أو…أو…الخ.

    فإيش الحل؟

    هل المفترض ننظر إن هذه “الدنيا دنية” وما تستاهل هل هذا القلق والخوف من الخروج من منطقة الراحة لأن هذه الدنيا دار عمل وانتقال فما تستاهل كل هذا التخوف والقلق والحرص؟ ما أعرف.. تساؤلات وكلام جا في بالي حبيت أشاركه معاش 💖💖

    صباحش سكر 😃💐
    Sent from my iPhone

    >

    إعجاب

    1. والله الكلام منطقي ومقنع جدا. والحمدلله أن فترات الشعور بهذي المشاعر مؤقتة، لأننا نعدل منظورنا للحياة وأفكارنا حولها بما يسمح لنا بالتعلم والنمو وتجربة الأشياء الجديدة.
      أعرف أن الفترات الصعبة تخلق منا أشخاص جدد بقدرات جديدة وإمكانيات أكبر وطريقة تفكير أعمق وأفضل. بس كمان زي ماقلت أحب السهولة واللين والحياة الحلوة الطيبة، أما مرحلة التفكير بانعدام الجدوى فتروح وتجي الله يكفينا شرها 🤕

      وآنستيني والله ياطروب ❤️

      إعجاب

  2. أولًا من طرائف قراءتي لهذه التدوينة الرحيمة أني لم أفهم من أين جاءت لي هذه المدونة بهذا القالب، لكن مع كل كلمة أستزيد منها أتأكد أنها أنتِ حقًا؛ في ما تكتبين نضج عذب! يوفقك ربي، ومبارك القالب الجديد.👏

    ثم تذكرتُ قصة حكتها لنا معلمتنا عن سفيان الثوري التابعي الجليل رحمه الله، انه قيل له بما معناه؛ ما الافضل بين قول أخوين أحدهما يقول: لأن أُبتلى بالنعمة خير لي من أن أبتلى بالمصيبة، والثاني يقول: أحب كل ما قدره الله لي من نعمة وبلاء. فمكث التابعي يتفكر، وكان مشتغلًا بالقرآن، واختار فيما بعد قول الأول وذكر أن الله وصف سليمان في سورة ص بأنه أواب رغم ما به من النعم وكذلك وصف أيوب بنفس الوصف على الرغم من أنه أصيب بالبلاء، وإذا كان كليهما عند الله سواء فالأحب إليه أن يُبتلى بالرخاء والنعم وأن يشكر فيؤجر، فما يدري أنفسه تصبر على البلاء أم تضعف، فالانسان لا يحيط بما يعتريه من ضعف ويأس.

    ربي يطمنك على ابنك ويطمن قلبك دائمًا، ويبقيك لمن حولك بسمة حقيقية تنبت بينهم وتُبهج💝

    إعجاب

    1. الله يا أسماء على القصة الحلوة! 💜💜
      بالضبط هذا هو، الحمدلله إنه في أحد يفكر كذا. النعمة أحب إلي من الابتلاء بالمصيبة وهذا مثال يطمئن نفسي ويخفف من روعي أن الابتلاء بالمصيبة ليس حتمي. ونظن بالله لطفه بنا.

      والله يبارك فيك أسماء ويسعدك على حسن ظنك ولطف كلماتك ♥️

      Liked by 1 person

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑