المرآة المكسورة وحفل كاسيت 90s

زارتنا ابنتا خالتي قبل أيام زيارة سريعة لإحضار بعض الأشياء من خالتي لي، فقد عاد الأولاد أخيرًا في الإجازة الصيفية بعد غياب عامين كاملين، وقررت خالتي مشكورة أن تصنع لهما خلطة البهارات الشهيرة الخاصة بها ليأخذاها معهما عند عودتهما، ووضعتها في كيس بداخل علبة محكمة الإغلاق، وأرسلتها مع بناتها. وبينما نحن نتحدث ونسأل عن الأخبار أشارت بنت خالتي إلى حفلة كاسيت 90 قائلة أن الحفلة ستكون لمطربي التسعينات: مصطفى قمر وحميد الشاعري وإيهاب توفيق وغيرهم، وأن زميلاتها في العمل متحمسات لحضور الحفلة، إذ على الأقل سيمكنهم أخيرًا الاجتماع في نفس المكان مع أشخاص من نفس الفئة العمرية عوضًا عن أبناء التسعينات والألفية أو (البزارين) كما أسموهم والذين نراهم في كل مكان وكل مناسبة مع اختفاء شبه تام لجيلي الثمانينات والسبعينات.

لم أكن أحلم بوجود حفل مثل هذا، كنت أتوقع أن تقام حفلات لمطرب واحد أو اثنين أو ثلاثة على الأكثر، لكن لثمانية مطربين شكلت أغانيهم محطات مهمة في حياتنا، ولكل منها ذكرى لأبرز لحظات مراهقتنا وبدايات شبابنا! هذا أكثر مما قد أحلم أو أفكر به.

منذ أن بدأت الحفلات هنا في المملكة لم أذهب إلى أي حفلة. لأسباب مختلفة، أحدها هو أنني لا أجد أن الأمر يستحق المال والوقت والجهد والسهر والترتيبات، ما لم تكن حفلة عبد المجيد عبد الله وفي الصفوف الأمامية. أما السبب الأكثر أهمية هو أن ابنتي الكبرى غالبًا ستود الذهاب معي لنفس الحفلة، والحقيقة أنني أنا كذلك أود أن نذهب معًا، لكنني سأضطر لوضع الصغرى في رعاية جدتها أو خالتها، وأنا لا أحب أن أترك ابنتي الصغرى خارج المنزل، خاصة إذا كنت سأعود للبيت في وقت متأخر من الليل. وهكذا لم يتيسر لي الذهاب لأي حفلة، عدا العرض الذي قدمته فرقة كورال الشرق في بينالي الفن الإسلامي، وقد كانت وقتها حفلة جيدة لكن بسبب الحر وضعف الصوت وعدم وجود تفاعل كبير من الجمهور جعل المتعة أقل من المأمول. كنت قد تركت الصغرى في رعاية أخيها، وانتهى العرض في وقت مبكر نوعًا ما. أما حفلة كاسيت التسعينات فلم تثر اهتمام ابنتي، خاصة أنها ستكون يوم الأربعاء (اليوم المفضل لدى جيلنا) لكنه الآن يعتبر في وسط الأسبوع، ويعقبه يوم عمل، لذا فقد قررت ابنتي مبكرًا أن هذه الحفلة لا تناسبها، وكانت فرصة لي كي أترك الصغيرة في رعايتها وأذهب للحفلة وأنا مطمئنة.

قبل يوم الحفل

حجزتُ تذكرتين للحفل بعد أن سألتُ أختي ووافقت دون تردد، كان هناك ألم خفيف في الحلق توقعتُ أن يغادرني صباح اليوم التالي، ولأنني خفتُ أن تباع كل التذاكر فقد اتخذتُ قرار الشراء فورًا. لكنني ما لبثتُ أن ندمت على هذا القرار المتسرع، فقد قضيت معظم ساعات الليل على كرسي الاسترخاء بسبب ألم الحلق والسعال الذي زاد وأجبرني على ترك السرير. وفي اليوم التالي زادت الحمى، وأصابت ابنتي الصغرى كذلك، فأيقنتُ أن حضور الحفل ليس من نصيبي، وبدأت رحلة البحث عن مشترين للتذاكر.

لم نجد من يشتري التذاكر، وفي صباح يوم الحفلة؛ قررت أختي الذهاب بدوني، أما أنا فقد شاهدتُ الفيديو الترويجي للحفل وشعرتُ بالعافية تتدفق في عروقي، فنويت أن أذهب ما لم يحبسني حابس، وذهبت لموعد الطبيب الخاص بالطفلة، والذي طمأنني بأن الأمر لا يزيد عن كونه مجرد عدوى ستأخذ عدة أيام وتخف، فدخلتُ أنا الأخرى لقسم الطوارئ، وكان رأي الطبيب مثل زميله، لكنه أصر على إجراء تحليل دم، وإعطائي المسكن في الوريد، فقبلتُ على أمل أن يجعلني الدواء أتحسن وأذهب للحفل.

أثناء ذلك؛ كنتُ أفكر في هيذر بادكوك، بطلة رواية المرآة المكسورة لأجاثا كريستي، فقد زارت ممثلة أمريكية شهيرة القرية التي تسكن بها هيذر واشترت قصرًا هناك، وبعد انتهاء التجديدات في القصر فتحت أبوابه للزوار من الضيوف وأهل القرية ليشاهدوا التجديدات التي أحدثتها به، وعندما قابلت هيذر الممثلة مارينا غريغ وجهًا لوجه، أبدت سعادتها الغامرة برؤيتها، وأخبرتها أنها قابلتها قبل سنوات في حفل افتتاح أحد أفلامها، وكانت قد حجزت لحضور الحفل لكنها مرضت بالحصبة الألمانية، ورغم الحمى والتعب قررت فعل كلما تستطيع لحضور الحفل، فشربت الأدوية والمسكنات، وربما أخذت إبرة كي تخف الحرارة وتحضر الحفل، وبالفعل حضرت الحفل وتشرفت بالسلام عليها ذلك اليوم الذي تذكره هيذر بكثير من الفخر والاعتزاز.

كانت مارينا غريغ في ذلك الوقت حامل بطفلها الأول بعد تجارب حمل كثيرة غير ناجحة، وبسلامها على الممثلة نقلت هيذر دون أن تدري عدوى الحمى الألمانية إلى الطفل في بطن مارينا، فولد الطفل معوقًا عقليًا، مما أصاب الممثلة بالألم والحزن، وأصيبت بسبب ذلك بانهيار عصبي دخلت على إثره المصحة. وما لم تدركه هيذر أنها كانت السبب في كل تلك المآسي والفترة الصعبة التي مرت على مارينا التي لم تكن تعلم مصدر العدوى، لكنها الآن علمت! وبدون تردد وضعت جرعة قاتلة من الحبوب المهدئة التي تتناولها في كأس الشراب الذي أعطته لهيذر، والتي توفيت بعد شربها له على الفور.

تذكرتُ هيذر بادكوك وشبهتُ نفسي بها مع الفارق، فأنا لن أذهب للسلام على هشام عباس ولا على إيهاب توفيق ولا على غيره، كما أنني لست مصابة بالحصبة الألمانية ولا كورونا مثلاً ولله الحمد، بالإضافة إلى أنني لبستُ الكمامة طوال الحفل، ولم أنزلها إلا لشرب جرعة المسكن التالية. والحمد لله أنني لا زلت على قيد الحياة لم يقتلني أحد 😅

وصلنا

وصلنا إلى مكان الحفل مبكرًا، كان الجو حارًا، والرطوبة عالية، ولولا ذلك لقضينا الوقت في الخارج نتأمل ونلتقط الصور مع الديكورات التي جسّدت الكاسيهات والمسجلات القديمة، مع أجهزة التلفاز ذات الأزرار والتي تزين شاشاتها صور المطربين الذين سيحيون حفل اليوم وقد وقف بعض الحضور للتصوير أمامها. تصاميم وأضواء نيون التسعينات الفسفورية الملونة كانت حاضرة بقوة، بينما توزعت الكافتريات والمقاهي في الفناء الخارجي. أما إن لم تكن لديك تذكرة، وقررت التطفل على الحفل فحتما ستنكشف. ففي كل خطوتين ستجد من يسألك عن التذكرة، وفي بعض النقاط يتم التأكد بمسح كود التذكرة بالجهاز المخصص لذلك.

الجمهور

حجزتُ في الصف الأول على يمين المسرح، وكانت أمامنا شاشة كبيرة تظهر المطرب بوضوح. كنتُ أظن الموقع قريبًا بما يكفي لنرى المسرح ومن عليه، لكنه كان بعيدًا رغم أنه لم يكن بيننا وبين المسرح سوى رافعة الكاميرا التي تصور الجمهور، والتي أخافت فتاتين كانتا خلفنا وتدعيان الله ألا تلتقط صورهما الكاميرا الشقية، فالحفل منقول على إم بي سي مصر، وعلى منصة شاهد. كنت أود اختيار مقعد في منتصف القاعة، لكن المقاعد كلها محجوزة. وما فهمته أنك ما لم تكن في الثلاثة صفوف الأولى فعليًا، فإن الرؤية ستكون بعيدة، وأن من الأفضل أن يكون مقعدك في وسط الجمهور -لا في الصف الأول- كي تشهد على تفاعلهم وأنت بينهم.

كانت أعمار الحضور غالبًا بين الثلاثين إلى الستين، هذا لا يمنع وجود بعض القيم المتطرفة، إذ جلست عائلة خلفنا فمازح أحدهم قريبته قائلا: يبدو أنك أصغر وحدة في الحضور فضحكت وقالت يبدو ذلك فأنا من مواليد عام 97، فعلّق ضاحكًا: ألم يسألوكِ عن الهوية عند المدخل ويمنعوك من الدخول لأنك أصغر من السن القانونية؟ ضحكوا جميعًا وضحكتُ معهم. أما القيمة المتطرفة الأخرى فقد كانت لسيدة حضرت يرافقها ابنها الذي يبدو أنه قد تجاوز الثلاثين، وكانت تضطر لمغادرة مقعدها أحيانًا وعندما تمر من أمامنا تعتذر عن إزعاجها لنا لكننا نبتسم لها ونقول خذي راحتك، فالنفوس مبتهجة والأشيه معدن.

كانت هناك تعليقات كثيرة قبل وبعد الحفل عن أن الجمهور سيكون (أصلع وبكرش وشعر أبيض)، حتى أنني عندما سألت أحد المنظمين قبل بدء الحفل عن مكان لأداء صلاة العشاء، أشار إلى مساحة خالية وقال يمكنكما الصلاة هنا، فسألتُه: ألا يوجد كرسي؟ فتفاجأتُ بقرصة في ذراعي من أختي التي همست لي بحرج: كلها دقيقتين ما تقدري تستحملي؟ لازم تفضحينا؟

ضحكتُ وضحكَت، وصلينا العشاء معًا.

ماذا عن الحفل؟

بدأ الحفل وهزّ السُّكر كل من فيه باستعادة أغاني المراهقة واللحظات التي رافقت أغانينا. الغناء بصوت عال مع الكلمات، والهتاف والتصفيق الذي ينسجم مع النغمة، وتبادل الحركات الراقصة التي ظهرت في الفيديو كليب وقت نزوله أول مرة مع سعادة وضحك لا يتوقف، وعندما يطرب الجمهور أكثر مما يجب؛ يهتف باسم المغني قائلا: بص شوف (مصطفى) بيعمل إيه، بدأ الحفل بأغنية كل البنات بتحبك لحسام حسني، واشتعل المسرح بعدها ولم يهدأ: مش نظرة وابتسامة لسيمون، وأعاتبك على إيه لمحمد محيي، وتعالى لي لخالد عجاج، وصهللي وحبيبي روحي السمارة لحميد الشاعري وعيني ووأنا اعمل ايه وناري نارين وفينو لهشام عباس، والسود عيونو والليلة دوب والعم نوح وسكة العاشقين لمصطفى قمر، وسحراني وعدى الليل وأكتر من كده إيه وأيامنا الحلوة والله عليك ياسيدي لإيهاب توفيق، وختامها مسك كان مع أغنية تترجى فيا التي قلبت مواجع الجمهور، فكان كلُّ منهم يغني بأعلى صوته متأثرًا بكلماتها الحزينة المتألمة.

لا أستطيع أن أصف مدى المتعة التي غمرنا بها هذا الحفل، كل الأغاني نعرفها، ونحفظ بعضها عن ظهر قلب، وكانت مفاجأة الحفل عندما ظهر الفنان محمد الحلو يغني تتر مسلسل ليالي الحلمية ثم زيزينيا مع ظهور لقطات مقدمة المسلسل على الشاشة الكبيرة في وسط المسرح، بصوت وأداء رائع بحق:

منين بيجي الشجن؟ من اختلاف الزمن

ومنين بيجي الهوى؟ من ائتلاف الهوى

ومنين بيجي السواد؟ من الطمع والعناد

ومنين بيجي الرضا؟ من الإيمان بالقضا

أما الجمهور فقد كان في حالة نشوة عارمة وطرب وسعادة قد ترى بسببها الأدرينالين يتقافز بين الصفوف ويسيل على مدرجات القاعة الكبيرة. ولم ينتهي الحفل في الثالثة والربع صباحًا، بل ظللنا فيه ومعه لليوم التالي وما بعده، وكلما شاهدت أحد الفيديوهات عدتُ لنفس المكان والزمان والشعور مع إحساس كبير بالشكر والامتنان لأنني استطعت حضور هذا الحفل في نسخته الأولى في جدة.

وهنا الحفل باختصار:

https://vt.tiktok.com/ZSLsFSX8V/

*إضافة أخيرة: كان الحفل يستحق كل ريال اندفع فيه 🥹

*يمكنكم مشاهدة مقاطع من الحفل على حساب بنشمارك الشركة المنظمة للحفل على إنستجرام وتيكتوك.

رأي واحد حول “المرآة المكسورة وحفل كاسيت 90s

اضافة لك

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑