فوضى وتطلعات خريفية

كان الصيف حافلاً بالمسرّات. عاد الأولاد بعد غياب عامين، وامتلأ البيت من جديد. عدتُ لاستخدام أواني الطبخ الواسعة، ووجبات الإفطار المبكرة، ولتناول وجبة العشاء بعد أن استبعدتُها من روتيني معظم أيام الأسبوع. زيارات عائلية، واستقبال للزوار، وشراء الكثير من الحاجيات الضرورية، ذهبنا بفضل الله لأداء العمرة، وخرجنا في نزهات قليلة بسبب الحر الذي يجبرك على المكوث في المنزل تحت هواء المكيف البارد. والأجمل أنه لم تعد هناك كراسٍ شاغرة على الطاولة، فالأولاد لا يحبون تناول الطعام بمفردهم، وبدل السؤال المستفز (ايش الغداء؟) الذي قد تسمعه بعض الأمهات، أصبح النداء جماعي لأفراد الأسرة: (يللا ما تبوا تتغدوا؟).

الاجتماع على طاولة الطعام من الأشياء المحببة في البيت، إذ يبدو أن الطعام كذلك يسعد بالحكايات والأحاديث والضحكات والمناوشات الخفيفة، فيقرر أن يتبارك ليظل الجالسون حوله لأقصى مدة ممكنة، ثم تأتي المشاركة في التنظيف وترتيب السفرة، لتعود للامتلاء بعد ساعات قليلة مع موعد الوجبة التالية.

أما الصغيرة فقد اعتادت بسرعة على الازدحام، وباتت تحاول الاستيقاظ قبل وقتها بساعات حتى تستمتع بصحبة أحد أخويها الذي يستيقظ قبل الجميع، لكنني أمنعها وقد أضطر لإغلاق الباب بالمفتاح حتى تأخذ كفايتها من النوم. أما مشوار الدكان فقد كان الأكثر إثارة، إذ تتشبث بأخيها بقبضة محكمة بمجرد استشعارها لوجود حاجة لذهابه إليه، وإن لم تذهب خلال اليوم فهي تتربص به عند العشاء، فيرضخ لرغبتها ويأخذها معه، أما إن كانت الأغراض كثيرة فيعدها بأن يصطحبها لمشوار آخر أقل إثارة، وهو مشوار رمي القمامة بجوار البيت، أعزكم الله.

في وسط المعمعة شعرتُ بألم في أسناني، قاومتُه لأسبوع لكنه استمر، أدركتُ أنه لا مفر لي من زيارة الطبيب. ذهبتُ إلى المستشفى، أخبرتني موظفة الاستقبال أن الطبيب، الذي اخترتُ الدخول عنده بسبب التعليقات المشجعة التي قرأتها عنه على موقعهم، لا يستطيع استقبال المزيد من المراجعين لازدحام العيادة، وأشارت علي بطبيب آخر، كنت مترددة، وكانت تحاول إقناعي بأنه أقدم طبيب في المستشفى وهو رئيس القسم، فإذا بمراجع كان بجانبي وسمع حوارنا، قال لي أن هذا الطبيب ممتاز عن تجربة، إذ كان الوحيد الذي استطاع معرفة مشكلته وحلها له، وهو طبيبه منذ أكثر من خمس سنوات، لكن عيبه الوحيد أن يده “ثقيلة” بعض الشيء!! هنا قاطعته فزعة: هذا هو اللي مخوفني! لكنني رضختُ في النهاية فلستُ في حال يسمح لي بالعودة مرة أخرى.

أتى دوري بعد ساعتين تقريبًا، وطلب مني إجراء أشعة عرف بعدها أن المشكلة في ضرس العقل، ويجب خلعه. وافقتُ على ذلك، وبعد أيام ذهبت إلى الموعد وأنا خائفة، أعطاني حقنة المخدر وانتظر قليلاً، ثم بدأ في خلع الضرس، ولدهشتي لم يستغرق الأمر سوى دقيقة واحدة أو أقل، وبدون ألم، لكن الألم بدأ فور وصولي إلى البيت، وبعد ساعتين أخذتُ حبة المسكن التي وصفها لي وخف الألم بفضل الله.

لا أذكر كيف تعرفت على هذا الموقع، فقد كنت مشتركة في نشرته البريدية لسنوات قبل أن تحدث مشكلة في تصفح الموقع فألغيتُ اشتراكي، لكنني احتفظتُ بالرابط في قائمة المواقع المفضلة، وقد عاد للعمل بشكل جيد منذ أشهر.

الموقع الذي أتحدث عنه يبيع أجندات لكتابة اليوميات والتخطيط الشخصي والروتين في الأصل، لكنه ينشر مقالات من وقت لآخر تتحدث عن الرفاهية الذاتية والحياة والتخطيط والتوازن وأهمية الوقت والعيش الواعي. هذه المقالات يحيط بها جو مميز تغلب عليه السكينة والتروّي وتذوق الجمال والاحتفاء بالطبيعة. ويطعمها كاتبها بمقولات غير مستهلكة، كانت المقولة التي قرأتها اليوم تقول:

“لا يمكننا تخدير المشاعر بشكل انتقائي، إذا خدرنا المشاعر السلبية فإننا نخدر الإيجابية كذلك، وإذا تخلصنا من مشاعر الألم وعدم الراحة، فنحن نتخلص كذلك من مشاعر الفرح والحب والانتماء والعواطف الأخرى التي تعطي معنى لحياتنا.” – برينيه براون

كنتُ نائمة عندما سمعت صوتًا قويًا في غرفتي، لم أفكر في الأمر كثيرًا وتجاهلتُ الأفكار المزعجة التي تقول لي أنها ربما تكون بسبب فأر ما دخل خلسة إلى المنزل، ونمتُ على عجل، ثم عرفتُ سبب الصوت، وهو سقوط حامل تعليق الملابس في دولابي، إذ وجدتُ باب الدولاب مواربًا والملابس متراكمة أسفله. ذهبتُ إلى إيكيا لأشتري قطعة غيار لتثبيت الحامل لكنه لم يكن متوفرًا، فاستعنتُ بأحد الأوفياء القدامى الذي أحضر لي قطعة التثبيت وأتى لتركيبها مشكورًا.

بعد أوقاتٍ حافلة، عاد الأولاد إلى الديار الغريبة، وعادت أيامنا لعهدها القديم. أحاول التأقلم مع الوضع بروية، أحيانًا أفكر بأنني قد أكون بالغت في بعض الأشياء، وأحمده أن الأمل به لا ينقطع أبدًا. لا توجد لدي مشاريع عاجلة، لكنني بحاجة لبعض السكينة والاختلاء بالذات. أنظر إلى الأشياء المتراكمة على مكتبي وأتجاهلها، ثم أمر بجوار سلة الغسيل ويزعجني تراكم الثياب فيها، لكنني أتجاهلها أيضًا. أسير إلى المطبخ لأرى بعض الأكواب، والأشياء التي ليس لها داعٍ تقبع على الطاولة وأسطح الدواليب، أنزعج كذلك لكنني أتجاهلها. أفكار تمر بخاطري، ومهام، وربما قلق وثقل الواجبات وبعض الحيرة والتساؤلات التي أتجاهلها ولا أقوم بأي فعل تجاهها.

كانت الفترة الماضية، كما قلت، مزدحمة بالناس والأشياء والأفكار، ولأنني معتادة على نفض الأفكار غير المريحة فإن هذا ما فعلته وظللت أفعله في كل مرة يواجهني تساؤل أو فكرة مقلقة أو شعور غريب. ويبدو أن هذه الفوضى هي السبب في الثقل، وفي احتباس الأفكار والكلمات، وفي تراكم الأشياء بداخل عقلي، حتى عجزت عن تمييز مشاعري التي اختلطت وتماهت وسط الفوضى. كنتُ أمسك بدفتري كلما داهمني خاطر، وأنثره كما هو على الورق، وفي أحيان قليلة تظهر أمور مستترة، لكن معظم الوقت أجد أن يدي قد توقفت عن الكتابة، فأغلق دفتري وأضعه في مكانه معززًا مكرمًا لوقت الحاجة.

يقال أن الحياة رحلة عاطفية، فالعواطف هي المفاتيح التي يمكنها فتح الأبواب المغلقة، وفي كل ثانية لدينا خيار الاعتناء بنظافتنا العاطفية، لأن العواطف معدية أيضًا. المشاعر رسل، تحمل معنى ولها هدف، عندما نستمع لما تقوله، ونسمح لها بإرشادنا، ونتعلم لغتها لنفهمها ونستطيع التعبير عنها جيدًا، فإننا نؤثر بشكل إيجابي على أنفسنا، ونغير العالم بداخلنا ومن حولنا نحو الأفضل.

في الأيام القادمة يبدأ الجو بالاعتدال، فهاهو موسم الخريف قد هلّ. موسم توديع الأشياء القديمة، والترحيب بالبدايات الجديدة والفرص الفريدة. موسم إعادة التقييم، والتذكير بالنعم التي تحيط بنا من كل جانب. وموسم النزهات اللطيفة، والليالي المنعشة الصافية، والتأملات الرزينة الهادئة.

*مقالة مفيدة عن الخدر العاطفي: https://jehat.net/index.php?act=artc&id=94805

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑