ماذا تعلمت عن الفقد؟

قبل فترة ليست بعيدة، علمتُ بوفاة زوج صديقة قديمة. ورغم ندرة التواصل، إلا أنني تألمتُ لمصابها، وأشعر بمشاعر الواجب تجاهها. ليس باليد حيلة، فرحيل الأحبة قدر لابد منه، لكنني أيقنت أن تجربتي قد تساعد أحدًا ما، ففكرتُ في كتابة بعض ما تعلمته عن الحزن والفقد.

مشاعر الحزن

رغم أن طريقتي في التعامل مع الأمور هي تجنب الألم والأفكار المؤلمة أو المحزنة، إلا أنني هذه المرة فضلت أن أعيشها بكامل إرادتي. لكن ما حدث هو ما تعودتُ عليه، أبلع المشاعر السلبية وأسارع في القيام بما يجب. فلم أتفرغ للأمر، بسبب وجود الكثير من المهام والأعمال والإجراءات التي كان عليّ التعامل معها، فتصرفتُ كما ينبغي. الوقت لوحده لا يشفي، وربما كان هذا هو السبب في نضوب الكلمات والأفكار والتطلعات. إذ أن التبلد العاطفي له أسباب، وله تبعات.

كانت البداية في الدهشة وعدم الاستيعاب. أما شعور الحزن فهو مصاحب لكل ذلك. كنت أشعر أنني لم أحزن بكل قوتي، وكأن عليّ ممارسة السيطرة على نفسي لأكون معتدلة في مشاعري، ثم قرأت أن الحزن يأتي على شكل موجات، ربما كان هذا هو السبب في شعوري ذاك، وفعلا هذا ما يحصل، إذ في مرات يزورك الحزن ثقيلا على قلبك، وفي مرات أخرى لا تكون سوى ذكرى خفيفة.

قبل أيام ساقني الحديث إلى ذكر الأمر لشخص ما لأول مرة، فوجدت الدموع طريقها إلى عيني عن غير قصد، فحاولت إخفاءها وابتلاعها قدر المستطاع حتى لا يلحظها محدثي. وبينما خالج داخلي بعض العتب عندما أقيمت مناسبة عائلية في الأشهر الأولى لوفاته، فإنني اليوم قد أكون استعدتُ بعض مظاهر حياتي الأولى، فلم أمانع الذهاب إلى الحفلات، وتزينتُ كما السابق في مناسبة عقد قران عائلية، وتخليت عن تحفظاتي الأولية، لكن الذكرى تزورني بين وقت لآخر، فأتساءل بيني وبين نفسي: أين هو الآن؟ وماذا يفعل؟ ولماذا لم يزرني منذ مدة طويلة؟ هل اطلع على ما يسوؤه؟ أم أنه انشغل في مكانه الجديد فحسب؟ أحياناً يكون الشعور به طاغيًا، والحزن كذلك.

ومع ذلك فإننا نتذكر بعض الأشياء التي تثير الضحك، كعبارة قالها فأصبحنا نستخدمها على سبيل المزاح، أو قصة حدثت فنعيد روايتها لمن حولنا، أو دهشتنا وضحكنا من موقفه من أحد الأمور. أتذكر أنني في نفس يوم رحيل زوجي كنتُ في غرفة الأولاد الذين عرفوا بوفاته قبل قليل، وكان أحدهم قد شعر بانخفاض السكر فأحضرتُ له كوبًا من العصير، وبينما كنا مجتمعين حوله وهو يخبرني عن إناء العصير الذي وجده في الثلاجة شبه فارغ انفرطنا في الضحك، فقد كنا جميعًا نعرف الفاعل، رحمه الله. لم تكن وفاته حدثًا عابرًا، لكن تلك كانت طريقتنا في التعامل مع الأمور، إذ بين لحظات الغضب، وأوقات الضيق، ومواقف الجد، لا يسعنا إلا الاستجابة لما يعرض حينها من تعليقات أو أفكار أو تلميحات مضحكة، فلا نكتمها بل نترك أنفسنا على سجيتها. وهذه قد تكون استراتيجيتنا الناجحة كعائلة للتخفيف من صعوبة الموقف أو ثقل المشاعر.

أحيانًا يؤلمني أن تنادي طفلتي الصغيرة أخيها الأكبر ” بابا”، أعرف أن هذا السن لا يستوعب فكرة الفقد، لذلك أتجاوز الأمر بسرعة، وأخشى اليوم الذي ستفهم فيه معنى ذلك. أحاول الدعاء له كل ليلة، وإهداء ثواب قراءتي لما تيسر من كتاب الله له، لكنني أجد أن شعور الذنب يراودني بين وقتٍ لآخر، لألوم نفسي على بعض الأمور التي من الأفضل لو تساهلتُ فيها، ولو كنتُ أعلم أن الحياة قصيرة لكنتُ أكثر مرونة. أعرف أن الحياة بين طرفين تتخللها بعض المشاكل وتتطلب التنازلات، وهي مسؤولية الطرفين، وأعرف أنني بذلتُ ما أستطيع، وأنني نويتُ أن أصلح بعض الأشياء لكن الوقت لم يمهلني، ولي في ذلك بعض العزاء. الحياة بين الزوجين لا تخلو من الخلافات والأخطاء والتنازلات من الطرفين، لكن الذاكرة تخوننا بعد فقدهم، فلا نتذكر سوى الخصال الحسنة، والمواقف النبيلة، واللحظات الجميلة، وهذا هو المطلوب، أن نتوقف عن لوم أنفسنا، وأن نتذكر من نحب بطريقة صحية للحفاظ على تواصلنا معه بينما نستمر في عيش حياتنا بشكل طبيعي ومتزن.

لقد خطر لي من قبل الكتابة عن الفقد، لكنني لم أكن قد جربته عن قرب، لذا تراجعتُ عن الفكرة. وبينما كتبت عنه لبنى الخميس بحرقة عندما فقدت أخيها، إلا أنني أفتقد لتلك الحرارة في المشاعر، وأتمنى لو كانت لدي لأستطيع أن أكتب بحرارة تلمس القلوب وتحرك النفوس. اختلاف الطباع يعني أن لكلٍّ منا طريقته الخاصة في تلقي الأشياء والتعامل معها، لا يوجد شكل واحد للتعامل مع الأمور، لذلك نختلف في شعورنا بالحزن، وفي التعبير عنه، وفي عيشه، وفي تجاوزه.

ماذا عن الآخرين؟

في بداية الأمر، لم أكن أحبذ وجود أحد بجانبي، لكن والدتي أرادت المكوث عندنا أيام العزاء وما بعدها. كنتُ أعتقد أن وجودها هو السبب في أنني لم آخذ الوقت الكافي لأحزن، لكنني اعرف الآن أن وجودها رحمة، وأن الأمر ربما كان ليتطور للأسوأ لو لم يكن أحد بجانبي.

الحديث عن الراحلين غالبًا غير مريح لكثير من الناس، لستُ جيدة في المواساة، ولا في التعامل مع المواقف المؤلمة، وهكذا هم معظم الناس. منهم من يحاول الطبطبة بعبارات غير دقيقة، أو غير مجدية، أو متفائلة بزيادة، أو تثير المواجع عن غير قصد، لكن الدوافع نبيلة وهذا هو المهم.

قد تكون طريقة شخص في التعاطف هي في محاولة تهوين الأمر، أو بمحاولة إخراجك من حالة الحزن بشتى الطرق، أو بتقديم العون المادي، أو بالاتصال والاطمئنان عليك باستمرار، أو بتولي عنك بعض المهام والواجبات الضرورية. من يحبك فسيفعل أقصى ما يمكن ليقول لك أنه بجانبك. أن تعرف أن هناك من يتعاطف معك، ويحزن معك، ولأجلك. هذه المعرفة بوجود السند في هذه الأوقات لا تقدر بثمن، فهي تجعلك تشعر بالأمان، والامتنان، وبها تمر الأوقات الصعبة بشكل أفضل. حاول تلقي الكلمات الطيبة ومحاولات التخفيف عنك بإيجابية، وانظر للدوافع التي تقول أن هذا الشخص يحبك ويفعل ما استطاع لمساعدتك بطريقته.

الحزن لا يأتي وحده

عندما تفقد ركنًا مهمًا في العائلة، فإن فقده يترتب عليه تبعات أخرى. الأدوار التي كان يقوم بها، والفوائد التي يقدمها وجوده كلها قد تنتهي. عدا عن الإجراءات الواجب اتباعها سواء كانت حكومية أو تتعلق بالأمور المالية.

لا يأتي الموت وحده، بل تتابع بعده المشكلات والمصاعب لتشمل أجزاء مختلفة من حياتك. في البداية يكون الأمر صعبًا ومؤلمًا جدًا. ثم تحاول الفهم، فتفهم، وتتقبل، وتصبر وتهدأ نفسك. قد تفارق أحبابًا آخرين، وقد تكابد خسائر مالية، وقد تعاني في إتمام الإجراءات الحكومية والبنكية، إذ قيلت لي نصيحة بعد أوانها: “حاولي إنهاء الإجراءات الضرورية والمستعجلة قبل إصدار شهادة الوفاة”.

كانت الشهور الأولى صعبة، من وقف بجانبي حينها لم يزل إلى اليوم حافظًا الود، وسأظل للأبد أحمل معروفه دينًا في رقبتي. أما من كفاني ذلك فجزاه الله عني خيرًا. ونصيحتي بهذا الشأن تقول: إذا احتجت لطلب المساعدة فلا تطلبها إلا من كريم، أما إن اضطررت لطلبها ممن هو غير ذلك، فعليك أن تكون مستعدًا لتحمل العواقب. قد تظن أن كل الناس ستتعاطف مع وضعك، لكن بعض الناس تجد فيه فرصة. لا أستوعب كيف، لكن هذه هي الحقيقة، وواجبك أن تحمي نفسك من محاولات الاستغلال، أو تعويض عقدة النقص على حسابك، أو تجاوز الحدود، أو التعدي على خصوصياتك.

قرأتُ نصيحة تقول: لا تتخذ أي قرارات كبرى قبل مرور السنة الأولى، وذلك لتفادي اتخاذ قرارات كارثية، وقد كدتُ أقع في واحد منها، لكن لطف الله أكبر. والتوقيت مهم، إذ بعد مرور الوقت الكافي ستعرف أن عليك القيام بأمور غير مريحة لحل المسائل العالقة، قد تكتفي بالدعاء، وهو فعل كافي جدًا، لكن ما تحتاج إليه هو تهيئة نفسك للتغيرات المطلوبة، حتى تكون مستعدًا للفرص حال قدومها.

إذا يئست من أمر ما وأيقنت استحالته، فادعُ الله، فلا شيء يعجزه مهما صعب، قد تتغير قوانين، ودول، وأنظمة، استجابة لدعائك. قبل كورونا كان التوأم في آخر سنة في الثانوية، وكان أحدهما قد استنفذ كل طاقته في السنوات الماضية، وثقل عليه الذهاب للمدرسة، لكن كان يجاهد ليلتزم بالحضور، دعا الله كثيرًا كي يمر العام على خير، ثم فجأة أعلن حظر التجول، وأن الدراسة ستكون عن بعد. لا زلنا نذكر هذه الحادثة كلما استحال علينا أمرٌ ما، ألم يغير الله نظام العالم بأكمله بسبب دعوة صادقة؟! أما أنا فقد لزمتُ سورة البقرة، ففُرجَت بإذن الله. ولازلتُ أوصي بها كل من ضاقت عليه، ففبها تفريج الهموم وتحقيق المستحيل.

أفكار تدور ببالك

قد تصاحب هذه الفترة أفكار غريبة عنك، قد تتعلق بذاتك وثقتك بنفسك، وهويتك التي تغيرت، قد تزورك الشكوك والمخاوف والقلق، معظمها بسبب الظروف التي تؤثر عليك سلبًا، فيقل معها إحساسك بالأمان، وتضعف ثقتك بنفسك وتقديرك لذاتك. وعيب هذه الأفكار أنها تتسلل إليك فتعتنقها دون أن تنتبه، والشيء الذي وجدته مناسبًا هو الكتابة عن كل ما يشغل بالك، وعن كل شعور سلبي أو غير مريح. إذا فهمت بوجود هذا الشعور وحاولت تحليله والإحاطة بأبعاده، ثم تفنيده بحقائق واقعية وبالاعتراف بشجاعتك وقدرتك على إدارة السفينة بنجاح، فإن الأمور ستعود لمسارها شيئًا فشيئًا. لا تستعجل نفسك في محاولة الخروج من منطقة ما إلى غيرها، بل تمهل وشاور وراجع نفسك قبل أن تضعها في أي مكان لا تنتمي إليه. حاول تحري الصواب في قراراتك قدر الإمكان، ولا تجعل الظروف وأفكارك ومحاولة إثبات شيء ما لنفسك أو للآخرين تجبرك على غير ما تريد.

خلال هذا الوقت المضطرب، يساعد التروي والتفكير والجلوس مع النفس والفهم في إدارة الأمور، حاول استعادة إحساسك بذاتك، وترتيب الأمور في عقلك. وأعد بناء هويتك في ظل الظروف الجديدة، وحاول التركيز على مجالات وأدوار أخرى من حياتك تحبها وتسعد بأدائها.

أسأل الله أن يحفظ للجميع أحباءهم، وأن يربط على القلوب ويثبتها ويعوضنا جميعًا بما يليق بكرمه وقدرته.

لسماع التدوينة:

4 رأي حول “ماذا تعلمت عن الفقد؟

اضافة لك

  1. التدوينة عظيمة..الله يملأ أيامكم سكينة وسعادة ويكون معنا جميعا في كل لحظاتنا وحركاتنا وسكناتنا وتقلباتنا!
    شكرا لك لمشاركتنا هذه المعاني💐💐

    Liked by 1 person

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑