خبز ولبن وزيت سمسم!

أمام التلفزيون

في بداية زواجي كنتُ أعيش في بيت أهل زوجي، وكانت جدة زوجي ، رحمهما الله، المعروفة بالطيبة وسلامة الطوية، تعيش كذلك معنا. في مرة عدنا أنا وعمتي من زيارة عائلية ووجدناها خائفة، إذ أخذت تحكي لنا عن الرجل الذي اتصل بالهاتف وعندما سألته: من تبى؟ قال لها: أباش، وأبى البنات! ويبدو أنها تجاوبت مع حديثه بحسن نية، فاستغل الأمر وتمادى في المزاح السخيف، حاولنا إخبارها أنه يكذب، لكنها كانت مصرة: لقد قال لي أنه يعرف بيتنا وسيأتي الآن.  

كانت عمتي تشغل لها التلفزيون كي تتسلى قليلا بمشاهدة المسلسلات البدوية التي تحبها على إحدى القنوات الإماراتية، ويبدو أنها كانت لا تعترف بالتمثيل، وتصدق كل ما يحدث أمامها، وتحكي لنا بانفعال وتصديق عن بعض المواقف التي تثيرها، ومنها الصراعات التي تحدث بين أفراد القبيلة خاصة تلك التي تحتوي على ضرب بالرصاص. وعندما نقلت كل القنوات نهائيات كأس العالم 98، كانت تتعجب من امتلاء الملاعب بكل هذه الجموع الغفيرة من الناس طوال الوقت، وكانت تظن أنهم هم نفس الأشخاص لا يغادرون أماكنهم، بل يظلون متواجدين في الملعب 24 ساعة، وتسأل زوجي بعجب: هؤلاء الناس متى ينامون ومتى يشربون ومتى يأكلون؟

كان عشاءها – كل ليلة-  يتكون من خبز صامولي، وكأس من اللبن الرائب مضافًا إليه ملعقة تقريبًا من زيت السمسم. تتناوله أمام التلفاز، ثم تخلد للنوم. ولأنني لم أجرب هذه الخلطة من قبل، فقد تساءلتُ عما سيكون طعمها، فجربتها مرة، ووجدتُ طعمها طيبًا ومميزًا بشكلٍ غريب.

ألف سلامة

دخلنا إلى القاعة، واستقبلتنا الموظفة التي تأخذ العبايات، وتعطينا رقمًا كي نستلمها قبل خروجنا، وطلبت منا موظفة أخرى تسليم أجهزة الهاتف لأن التصوير ممنوع، فسلمتُها وابنتي هاتفينا وأخذنا الرقم لنعود لاستلامه أثناء خروجنا كذلك.

وجدتُ مجموعة من أقاربي قد وصلوا للتو، فسلمتُ عليهم ونظرتُ إلى شعري وزينتي في المرآة لأطمئن أنها لم تخرب أثناء الطريق، ودخلتُ خلف عمتي ومجموعة من الأهل، اتجهت عمتي إلى إحدى الطاولات لتسلّم على أصحابها ونحنُ معها، أثناء ذلك لمحتُ بعيني بعض من أعرفهن على طاولة بعيدة، ففكرتُ بتجاهلهن، لكنني فكرتُ أكثر وقررتُ الذهاب للسلام عليهن، فأتى البقية معي ثم جلسنا حول طاولة كانت شبه فارغة.

بدأنا تبادل السؤال عن الأحوال، وسألتُ قريبتي عن صحة جدتها فقالت أنها لا بأس بها، إلا أنها مؤخرًا بدأت تتذكر الحكايات القديمة جدًا، وتعيد تكرارها، وقد تسألك عن أمرٍ ما، ثم بعد يومين تعود لسؤالك عن نفس الأمر. تذكرتُ خالتي الكبرى فقد بدأ الأمر معها كهذه الجدة، ثم تطور للأسوأ. قررتُ النظر لهاتفي إذ لربما حاول ابني التواصل معي، وفتحتُ حقيبتي فلم أجد الهاتف، فهتفتُ بابنتي قائلة: بسرعة اتصلي على أخيك فقد نسيت الهاتف في السيارة.

نظرت لي ابنتي باستغراب، فقلتُ لها: بسرعة كلميه.

فقالت لي: ماذا بك؟ لقد أخذوا منا الهاتف عند مدخل القاعة!

دخَلَت المدرسة

التحقت ابنتي الصغرى بالروضة هذا الفصل، متأخرة عن أقرانها بفصل دراسي كامل، تعلموا فيه معظم حروف الهجاء، لكن لا بأس، فهدفي أن تعتاد على جو المدرسة رويدًا رويدًا.

هي ليست مدرسة أو روضة عادية لكنها دار تحفيظ قرآن مسائية، ورغم أنه يوجد فترة صباحية لتعليم الأطفال، إلا أنني فضلتُ أن أسجلها مساءًا، وتوقعتُ أن الحضور سيكون في الساعة الرابعة والنصف عصرًا، لكنني فوجئت أنه قبل ذلك بساعة، وهذا يعني أنني يجب أن أطبخ الغداء مبكرًا حتى تستطيع تناوله قبل ذهابها.

في الأيام الأولى كنتُ أذهبُ معها وأنتظر خارج الفصل حتى موعد الانصراف، أجلس على الكنبة في الصالة الداخلية، وهي تروح وتجيء لتتأكد من تواجدي وعدم تركي لها لوحدها في هذا المكان الجديد، بينما تتوافد السيدات الكبيرات اللواتي يدرسن القرآن مساءً، فيسلمن عليّ عند دخولهن، وتقترح بعضهن عليّ التسجيل معهن بدل الجلوس هكذا (بلا شغلة ولا مشغلة). وبالصدفة كانت إحداهن هي تلك السيدة العجوز التي طلبت مني مرة إيصالها إلى الحديقة، فترددت ثم قررت توصيلها، وذكرتُ القصة في تدوينة مواني.

في اليوم الخامس، شعرتُ أن ابنتي التي أحبت المدرسة من أجل الألعاب الموجودة في فنائها لا من أجل التعلم، مستعدة للبقاء بدوني، فقلتُ لها أنني سأعود إلى البيت الآن، وسأرجع لاصطحابها بعد انتهاء فقرة اللعب بالألعاب، فوافقت بتردد، وعدتُ إلى البيت أخيرًا مرتاحة لانتهاء هذه المرحلة بسلام.

لم يفتر حماس ابنتي للذهاب للمدرسة، وعندما تأتي الإجازة الأسبوعية تصر على الذهاب، لأنها تعتقد أن المعلمة والأولاد والبنات موجودين في المدرسة طوال الوقت! حاولتُ إفهامها فكرة الإجازة، وأن المدرسة مغلقة، والكل ذهب إلى بيته، ويبدو أنها تحاول أن تستوعب قليلاً إذ تسألني في أوقات متفرقة: هل الأولاد الآن في المدرسة؟ وماذا يفعلون الآن؟ هل هم نائمون أم ماذا؟

بالأمس اتصلت بي المعلمة تقول أنهم بعد انتهاء اللعب أخذت ابنتي شنطتها استعدادًا للمغادرة إلى البيت، فأمسكت بها المعلمة قائلة: والله ما تطلعين لحالك، فضحكتُ وقلتُ لها سأرسل أخيها الآن ليأخذها.

وتذكرتُ أنني عندما كنتُ في مثل سنها تأخر السائق، فأخذتُ حقيبتي وعدت إلى البيت مشيًا على الأقدام، أتذكر أنني تفاجأتُ من طول الطريق، فبالسيارة تبدو المسافة قريبة جدًا، وعندما وصلتُ تفاجأتُ من غضب والدتي التي لم تعاقبني في حينها، بل قالت أنها ستخبر والدي عندما يعود من العمل، وهذه كانت أول مرة تحدث في التاريخ، إذ كانت والدتي هي التي تتعامل مع أخطائنا، ولكم أن تتوقعوا الرعب الذي عشته حتى وقت عودة والدي من العمل، لا أتذكر عقابه، لكنني أتذكر رعب الانتظار، فلو كانت عاقبتني والدتي مهما كان العقاب؛ إذن لانتهى الأمر، أما انتظار العقاب فهو أسوأ من أقسى عقاب.

والعجيب أن ابنتي الكبرى فعلت نفس فعلتي عندما كانت في المدرسة الابتدائية، ولأنها كانت تعود إلى بيت والدتي فقد ترجتها ألا تخبرني بالأمر، ولم أعرف إلا بعد مرور سنوات طويلة، فأمِنَت عقابي، لكن يبدو أن والدتي قامت بالواجب، فلم تعد إلى فعلتها ثانية.  قد يفكر أحدكم: اكفِ القدر على فمها تطلع البنت لأمها، وقد يفكر آخر: إن سرق فقد سرق أخٌ له من قبل. لكن الشاهد أن الوراثة ليست بالصفات الشكلية فقط، بل بالأفكار، والأقوال، وحتى التصرفات!

قبل يومين شعرتُ بالجوع قبل النوم، ولأنني عادة لا أتناول وجبة العشاء فأحببتُ تناول وجبة خفيفة، فتحتُ الثلاجة ورأيت علبة اللبن، فسكبتُ منها في كأس ووضعتُ بها ما يعادل ملعقة من زيت السمسم، وأخذت كسرة خبز وتناولتُ عشائي الذي أعادني إلى الوراء سنوات طويلة، عندما كانت جدة زوجي تشاهد التلفزيون، وهي تتناول عشاءها المكوّن من كسرة خبز، وكأس لبن مع ملعقة من زيت السمسم!

4 رأي حول “خبز ولبن وزيت سمسم!

اضافة لك

  1. السلام عليكم ،
    الخبز و اللبن فقط قرأت أنه طعام متكامل و يمكن أن يعيش عليه الإنسان لفترة طويلة ، في أحد المنتديات هناك رجل ذكر أنه منذ مدة طويلة يأكل الخبز و اللبن …

    Liked by 1 person

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑