ملائكة وشياطين

كانت لطيفة المعشر، حسنة الطباع، تضحك وتتحدث بهدوء ورزانة. وعندما تريد أن تحصل على شيء مني، تتوجه بقصة حول الشخص المعني، وتتساءل بكل براءة حوله، هل من الممكن أن يفعل كذا؟ فأنا لا أعرفه، أجاوب عليها بكل شفافية أن فلان لا يمكن أن يفعل كذا، وإن كان مظهره يبدو لكِ غير ذلك.

كنت أعزو المشاكل التي تحكيها لي قريبتي عنها إلى تعقيد علاقة الأخت بزوجة الأخ، ولم أحملها أكثر من ذلك. أحيانًا تمتدح أحدًا أحبه مع تعليق ضاحك وعندما أبتسم تصدمني بإضافة موجعة، أعتقد أنها تمزح ولا تقصد بها الأذى.

“كل إناء بما فيه ينضح” هذه العبارة صحيحة تمامًا في الخيارات التي نختارها في حياتنا، وفي المواقف الحياتية التي تتطلب اتخاذ قرار، وبصورة أبسط تظهر عند الغضب والتصرفات العفوية، لكنها لا تنطبق على الصورة المدروسة التي يظهرها الناس في شبكات التواصل الاجتماعي، إذ أعرف مجموعة لا بأس بها من الناس تختلف شخصياتهم اختلافًا جذريًا عما يظهرون بها على الشبكة الافتراضية. وقد ولدت هذه التدوينة من وحي تغريدات قرأتها قبل قليل لشخصية تبدو كملاك؛ لمن لا يعرف.

تسألني: فلانة لم تكن كذلك، لا أعرف ما الذي حصل لها. قلت: الإنسان كائن معقد، يتطور سلوكه وتتغير قيمه مع تقدمه في العمر، ويرجع ذلك في الأساس إلى طبيعته الشخصية، ثم إلى الأشخاص الذين يعاشرهم، وإلى الظروف والتجارب الحياتية التي يمر بها، فتخرج أفضل ما فيه، أو للأسف أسوأ ما فيه.

لدي قريبة صديقة ملائكية السحنة، وأفعالها وأقوالها كذلك، ما لم تشعل حس المغامرة لديها، في مرة قيل عنها: “لو كل الناس مثل فلانة ستمطر صبح وليل.”، وفي مرة أخرى : “محد مثل فلانة” وكلها من أشخاص غرب، وأنا القريبة أقول كذلك الآن ولن أتوقف عن قولها، إلا أنني أفتقد شخصيتها التي أعرفها بها مذ كنا في سن الطفولة، عندما كنا نلعب المصارعة مع الأولاد، ونمتطي دباب البحر دون موافقة أهالينا، ونتخفى في زوايا الشاليهات لنجرب المغامرة ونشعر بالإثارة البريئة، أفتقد تلك الأيام وأريد أن نعيش الحماس معًا الآن وطيلة حياتنا، لكن صورتها كزوجة رجل رزين، وأم لفتاتين في سن الصبا هي التي أراها غالبًا.

يسألني الأولاد أحيانا بحزن عن أشخاص تصرفوا على غير ما هو متوقع، فأجيب أنهم ليسوا ملائكة ولا شياطين، بل هم ببساطة بشر، والبشر يخطئ ويصيب، وهناك أخطاء يمكن تقبلها، وأخطاء لا نتسامح معها، ففكر: هل تريد هذا الشخص في حياتك على الرغم من وجود هذا العيب فيه؟ أم أن هذا العيب لا يغتفر وبسببه ستمحوه من حياتك للأبد؟ أنت من تقرر، إذا كان هذا الشخص مٌهمًّا فستغفر وتسامح وتتجاوز، أما إن كان العيب لا يغتفر من قبلك، فتجاهل الشخص واصنع مسافة بينك وبينه حتى يخرج من حياتك، أو على الأقل يصبح غير مؤثر فيها.

مرت السنون وبين فترة وأخرى كانت تصل إلي حكايات عن مشاكل كانت السيدة اللطيفة حسنة المعشر طرفًا فيها، كنتُ أغض طرفي عنها لأني تعلمت ألا أحكم على طرف في مشكلة، ما لم أحط بالتفاصيل من جميع الأطراف. إلى أن تسببت بمشكلة وقعت أمام عيني، وتجاوزت تلك السيدة اللطيفة كل ما أعرفه عن النزاهة وطيب الخلق. عندما تجمعني الصدفة بها اليوم أراجع نفسي وأتساءل بتعجب حقيقي: هل من المعقول أن تتسبب هذه الإنسانة بكل هذا الضرر؟ أذكر نفسي بما حدث كي لا أعطيها الأمان، ليست المسألة مسامحة أو غفران، لكن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.

مهما ظننا أننا نعرف فلان أو فلان، إلا أن الأيام تثبت لنا عكس ذلك، يأتي تصرف من قول أو فعل غير متوقع يتلاعب بالصورة التي كوناها عنه، لتتكون صورة أخرى، ليس بالضرورة أسوأ أو أفضل، لكنها مختلفة وقابلة للتغيير وفقًا للظروف والمعطيات المستقبلية. ومع ذلك، لا يوجد شخص يشبه الآخر تمامًا، فشخصياتنا مختلفة ومتفردة، كبصمة الأصبع.

رأي واحد حول “ملائكة وشياطين

اضافة لك

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑