حكاية نملة

عندما كنت طفلة، كان هناك نملٌ في حوش بيتنا. أحيانًا كنت أقضي وقتًا طويلاً في مراقبته، كان النمل يسير في مسار واحد جيئة وذهابًا، وكل نملة تأتي من مكان بعيد جدًا، تقطعه في ساعات، ثم تعود حاملة تلك الفتفوتة الصغيرة لتجمعها مع فتافيت أخرى تخزنها استعدادًا لفصل الشتاء. أنظر إلى النمل من الأعلى، إلى المكان الذي جاءت منه، فأجده لا يخرج عن حدود بيتنا، وأقطع الطريق منه وإليه في ثوانٍ قليلة.

كل ليلة عندما تخلد ابنتي الصغيرة إلى النوم، أتسلل من الغرفة بهدوء وخفة، آخذة معي كيس أدويتي وزجاجة الماء، وأتجه إلى حيث نقضي الليلة أنا وابنتي الكبرى، نشاهد حلقة من مسلسل بلاك ليست، ثم ننهي السهرة بحلقة من مسلسل مودرن فاميلي. بلاك ليست مسلسل بوليسي تحتوي كل حلقة فيه على مشهد أو اثنين من مشاهد العنف والجرائم المقززة غالبًا. ومن كل ثلاث حلقات أو أربع يكون المجرم على القائمة السوداء أما عربي أو مسلم، ويستعرض المسلسل مدى براعة عملاء الإف بي آي، وغبائهم أحيانًا. في كل حلقة تقريبًا يحتاج الفريق المكلف للوصول إلى شخص أو أكثر، وبكل سهولة يستطيع “آرام مجتباي” المسؤول التقني في الفريق التوصل لبيانات المشبه به ومعلوماته الشخصية ومكان تواجده عبر قواعد البيانات الخاصة بالإف بي آي وغيرها من قواعد البيانات الأمريكية. مما يجعل رواية 1948 لجورج أورويل تتهادى إلى ذهني كل ليلة.

غلاف كتاب تجديد جورج أورويل للدكتور جلال أمين

أحتاج إلى دروس في التاريخ.

رغم أن درجاتي في مواد التاريخ أيام المدرسة كانت ممتازة، إلا أنني لا أذكر شيئًا مما درست، وأحتاج إلى دراسة تاريخنا مرة أخرى الآن لأفهم ما يجري في هذا العالم. يحدثني ابني عن صراع عنصري دار بين مجموعة من الأشخاص في تعليقات اليوتيوب، وشاركني رأيه مع بعض السخط على أمور لا يملك السيطرة عليها أو تغييرها. قلتُ له هل تعلم أن زمان لم يكن هناك دول؟ كانت فقط دولة أموية أو عباسية أو عثمانية، وكلنا الجزيرة والعراق ومصر والشام وبلاد المغرب كنا تحت دولة واحدة، ثم بعد الحرب العالمية الأولى اتفقت بريطانيا وفرنسا وروسيا على تقاسم المنطقة بعد هزيمة الدولة العثمانية، فأخذت فرنسا لبنان وسوريا والموصل، وسيطرت بريطانيا على جنوب الشام والمنطقة الممتدة بينها وبين الخليج العربي إضافة إلى بغداد والبصرة، أما فلسطين فكانت تقع تحت إدارة دولية مشتركة بين فرنسا وروسيا وبريطانيا. وهذه الاتفاقية التي عرفت باسم “سايكس بيكو” وتبعها وعد بلفور فيما بعد؛ قسمت المنطقة العربية إلى دول وكيانات كبرى إلى هذا اليوم. ولم يكفهم ذلك بل أشغلوا الشعوب بالعنصرية والصراعات الوهمية التي تهدف للتقسيم أكثر وأكثر اتباعًا لمقولة “فرّق تسُد”. تحول غضبه من اليوتيوب إلى الاتفاقية وأطرافها الثلاثة، هل لهذا الغضب فائدة؟ ربما لا، لكننا بحاجة لنتعلم التاريخ ونعلمه أبناءنا شئنا أم أبينا.

قبل أيام سألتُ قريبتي: “كيف هي قريتكم؟ احكي لي عنها”. نظرت لأعلى كمن يحاول التذكر، ثم قالت بعجلة: لن تعجبك. قلت لماذا؟ قالت لا تستطيعين الذهاب لأي مكان، فقط في البيت. قلت طيب حكيني عن الإيجابيات. سرحت بخيالها قليلا ثم قالت:لا لا لن تعجبك. أتذكر عندما كان أبي أو عمتي يحكيان لي عن قريتهما كنا نقول باستغراب مشوب بالاستهجان: “أوه يا الله؟ كيف كذا؟”. كنا صغارًا في السن، لا نفهم أن تعلم أساليب البقاء وإتقانها في بيئة صعبة هي نعمة بحد ذاتها.

تفتتح كتب التنمية الذاتية صفحاتها بعبارة: لو كان لديك كل الإمكانيات، تخيل ماذا ستفعل وماذا تود أن تكون؟ وبدلاً من أن نبدأ من أول السلم، نجد أننا بالأعلى، ننظر لأنفسنا تحت، في أول السلم. أما نبينا صلى الله عليه وسلم فيقول: “انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم”.

يشرح كتاب “قلق السعي إلى المكانة” كيف كانت مكانة المرء موروثة عن آبائه وأجداده في المجتمعات القديمة، أما في المجتمعات الحديثة فقد اعتمدت مكانة المرء على أدائه وإنجازاته في ظل اقتصاد محموم لا يتوقف عن الركض. فعلى قدر ما تملك من المال يكون احترام الناس لك. وعندها بدأ أغلب الناس يميلون لمقايضة ذكائهم أو قوتهم البدنية مقابل أجر يدفعه شخصٌ آخر، بدلاً من العمل في مزارعهم الخاصة أو في الأعمال التجارية الصغيرة. وكرد فعل على ميل الناس للعمل تحت أرباب عمل آخرين غير أنفسهم، ظهر في عام 1907م كتاب “ثلاثة أفدنة وحرية” لكاتبه الأمريكي بولتون هول، يسلّم الكتاب بحماقة العمل لأجل شخص آخر، ويوعز لقرائه أن بإمكانهم كسب حريتهم إذا هجروا المكاتب والمصانع واشتروا مساحة 3 أفدنة من الأرض الرخيصة والصالحة للزراعة في المناطق الريفية بوسط أمريكا، ستتيح لهم هذه المساحة من الأرض زراعة ما يكفي من الطعام لأسرة تتكون من أربعة أفراد، وبناء بيت رخيص لكنه مريح، والأفضل من ذلك أنهم لن يكونوا مضطرين لممارسة ألعاب التملق والتفاوض مع الزملاء والرؤساء في أماكن العمل. وأنا شخصيًا أتفق كليًا مع هذه الجزئية من الكتاب، وأضيف إليها فكرة التخلص من الاعتمادية على الغير سواء كانوا دولة أو أفراد، في توفير حاجات كانت كمالية ثم أصبحت من الضروريات التي لا يخلو منها أي بيت. التعود على الرفاهية والنعيم الذي يجعلك بحاجة للخلق أمر مزعج، وما أجمل الاكتفاء الذاتي الذي يجعلك تشتغل بأمورك ولا تنشغل بالآخرين وبما يمكنهم أن يقدموه لك. قد يرى البعض أنها فكرة متطرفة، لكنني أرى أن ليس كل ما اعتدنا عليه يعتبر أمرًا مسلمًا به، إذ من المفيد إعادة النظر في المسلمات، فأنا لا أثق من أين أتيت بالأفكار التي تراكمت في رأسي خلال السنوات الماضية. ولأجل ذلك أريد أن أدرس التاريخ مرة أخرى، لعلي أفهم أو أتعلم. إذ أشعر أحيانًا أنني نملة ضئيلة تدور في مكانها الصغير ولا تدرك حجم العالم من فوقها، ولا تستطيع إدراك التغيرات التي تحدث لها ويتأثر بها عالمها، لأن من يتحكم به ويضع قوانينه هو شيء أكبر مما يتصوره عقلي الصغير.

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑