بين القديم والجديد

قبل يومين، وبعد أن أتت ابنتي من عملها وجهزت غداءها المتأخر؛ قالت لي تعالي اجلسي معي في غرفتي لأريك فيديو لأغنية من حفلة في السعودية شاهدته اليوم وأعجبني تفاعل الجمهور فيه. كنتُ قد خبزت كيكة برتقال فقطعتُها ووضعتُ بعضًا منها في صحن، وأخذته معي لغرفتها. فتحت الفيديو على شاشة الكمبيوتر المكتبي وغطت بيدها على اسم المقطع في الأعلى، وسألتني خمني اسم الأغنية، لم أستطع التخمين في البداية فقد كنت أشاهد بتركيز وابتهاج منظر الجمهور المتفاعل، وإذا بها حفلة حماسية من 2019 لماجد المهندس في أبها وهو يغني:

يقول الله يطعني

وأقول الله يسبق بي

جنوبي نثر همه

على غيمة جنوبية

رصد اجتماعي

في 2007، زرتُ القاهرة وأخواتي أبطال الجمهورية وبنات خالتي وابنة عمي، كانت أجمل رحلة في التاريخ، وكانت بنت عمي وبنت خالتي يصران على أن رابح صقر هو أفضل فنان في الحفلات الغنائية، وأنه لو كانت هناك حفلة لرابح فسيحضرانها دون تردد. كنت أتعجب من اختيارهما لرابح، فهناك فنانون أفضل منه برأيي، ولم أكن وقتها أفهم الفرق الجوهري بين أداء المطرب المباشر أمام الجمهور وبين أدائه في الاستديو. عدوى رابح اليوم انتقلت لابنتي، فهي تتمنى حضور إحدى حفلاته، إذ أن حفلته الأولى في جدة كانت خلال الأسبوع الذي أجرت فيه عملية استئصال الزائدة، فلم أسمح لها بالذهاب، والحفلة الثانية التي لم أسمح لها بحضورها كانت في الرياض بعد ولادتي بفترة قصيرة.

بالأمس قرأتُ تدوينة “إلى من أنتمي؟” لمدونة عزيزة من اليمن، كانت تدوينة من النوع الذي يجعلك تطلع على الثقافة الاجتماعية للمنطقة التي تعيش بها، مع تفاصيل جميلة ومسلية. أحببتُ التدوينة واستغربت أن أوردت عبارة “من كيسي” مع أبيات من الشعر النبطي لجار الله السهلي، وهذه ليست أول مرة أنتبه، والفضل يعود لتويتر برأيي، أن الكثير من الكلمات السعودية الدارجة أصبحت متداولة بين المدونين والمؤثرين العرب والخليجيين على الشبكات الاجتماعية. بل وحتى بين مناطق المملكة المختلفة، فكلمة “يا لبى” أصبحت على لساني رغم أنها لا تنتمي إلى اللهجة الجداوية بل وغريبة عليها حتى في النطق. تذكرت قبل مدة عندما حكت لي ابنتي موقفًا حدث لها مع مورد مصري، إذ كان يقول لها أنه سيعطيها الأسعار (السابتة – الثابتة) وهي تقول له لا أعطيني إياها دحين. وظل يعيد جملته ليؤكد لها أنه سيعطيها الأسعار الثابتة، فيما هي تحثه على إعطائها الأسعار الآن. وسوء الفهم حدث لأن ابنتي العزيزة كانت تظنه يقول: سأعطيك الأسعار السبت ده، فكان من المنطقي أن تطلب منه إعطاؤها الأسعار الآن، إذ لا داعي للانتظار  ليوم السبت!

ضحكت عندما حكت لي سوء الفهم بسبب عدم فهمها للهجة المصرية، فقد عرفتُ منذ مدة أنها لا تفهمها مع استغراب شديد من قبلي، إذ أننا كبرنا ونحن نشاهد المسلسلات المصرية، ونستمع للأغاني المصرية، ونمزح أحيانًا باللهجة المصرية الممزوجة بلكنة خليجية ثقيلة.

لست راصدة موهوبة ولا محللة اجتماعية بارعة لعدة أسباب، أولها أنني أنسى كثيرًا. وبما أنني لا أركز ولا ألاحظ إلا ما يخصني بشكل مباشر، فإن كثير من المواقف والأحداث في حياتي تمسح من ذاكرتي أولاً بأول، وما لم يؤثر بي الشيء تأثيرًا عميقًا فإنه سيصبح منسيًا خلال أيام أو أسابيع أو شهور على الأكثر. والسبب الثاني هو أنني لم أدرس هذا العلم، وليس لي دراية بأبسط أبجدياته، لكنني أحب تلك النظرة الشمولية التي تنظر للأمور من الأعلى، وتربطها ببعضها وتحللها لتصل إلينا بخلاصة منطقية لأفكار وأحداث عشناها وكنا أحد أبطالها. لذلك أحب أن أجتهد فيما أرى، وأترك الباقي للمتخصصين والموهوبين.

في مقالة قرأتها لدكتور أحمد خالد توفيق رحمه الله يقول: “كل لغة تتطور مع الوقت، وأية مقارنة بين لغة  (المنفلوطي) ولغة (صنع الله إبراهيم) تريك الفارق الهائل، وحتى القواميس الإنجليزية الرصينة صارت تحوي قدراً لا بأس به من العامية وربما الشتائم. أذكر المعركة الأدبية النارية بين (العقاد) و(ميخائيل نعيمة) حول لفظة (تحمم) التي قال الأول إنه لا وجود لها في اللغة العربية، بينما أصر (ميخائيل نعيمة) على أنها لفظة مفهومة لأي شخص، فلماذا نسمح لشاعر من البادية ـ والكلام لـ  (نعيمة) ـ أن يخترع لفظة لا وجود لها، مثلما اخترع (امرؤ القيس) لفظة (تتفل) لأنها تناسب القافية والوزن وأعلن أن معناها (ثعلب) من الآن فصاعداً، بينما نمنع شاعراً آخر من ابتكار لفظة مثل (تحمم) ؟”

أعرف أنه يمكن تغيير دلالات الكلمات واختراع معاني أخرى للفظ الواحد، واستخدام كلمة في موضع غير ما تعودنا عليه، لكنني لم أكن أعرف بمشروعية اختراع لفظة جديدة عن سبق إصرار وترصد. ويا لها من فكرة! يبدو أنها ستصبح هوايتي الجديدة 😈

تحليل (من كيسي)

قبل أمس وجدتُ تغريدة في تويتر تقول أن الشاورما في 2010 كانت ب 4 ريال، واليوم نفس المطعم أصبح يبيعها ب 9.5 ريال، ما يعني أن السعر ارتفع بنسبة 240% تقريبًا خلال 10 سنوات. هل يمكننا تطبيق الأمر على الراتب الشهري؟ بحيث أن من كان يتقاضى 4000 ريال كراتب شهري عام 2010، نجد أنه يتساوى في المستوى الاقتصادي مع من يتقاضى راتبًا قدره 9600 ريال شهريا اليوم؟

لا أدري إذا كانت المقارنة بهذا الشكل صائبة أم لا، لكنني أعرف أن 4 آلاف قبل عشر سنوات كان متوسط الراتب الشامل للوظائف البسيطة مثل خدمة العملاء. بمعنى أننا إذا أردنا تطبيق الأمر لكان الموظف في خدمة العملاء وما يساويها من الوظائف اليوم يجب أن يتقاضى 9600 ريال شهريًا ليعيش بمستوى موظف خدمة عملاء في 2010.

مشاعر خفية

بينما كانت ابنتي تتنقل بين فيديوهات الحفلات التي أقيمت مؤخرًا في السعودية، بعد فترة طويلة من حظر الحفلات الغنائية عدا الفترة التي اقتصرت على حضور الرجال فقط، شعرت بمشاعر لم أشعر بها منذ مدة طويلة، وهي مشاعر الاستمتاع والإثارة مع بعض من مشاعر الذنب الخفية، عندما انتبهت لمشاعري هذه تتبعتُها وعرفتُ من أين أتت، فقد كانت هناك حفلات مصغرة تنظمها بعض الأماكن الترفيهية في الأعياد، وتتضمن حضور فرق موسيقية صغيرة مع مطرب غير معروف يغني الأغاني التي نعرفها. كانت تلك الحفلات بتذاكر دخول أسعارها بين 100 إلى 250 ريال إذا لم أكن مخطئة، ولم يكن يحضرها سوى جمع قليل من الناس، وأتحدث عن فترة منتصف التسعينات وما بعدها. إذ كان الذهاب لمثل هذه الحفلات أمرًا مرغوبًا من الشباب، لكنه محظورٌ عليهم، لأسباب دينية واجتماعية بالأساس،  أما نحن فكنا نذهب بشروط، وهي أن يكون معنا أحد كبير، وكانت خالتي دائمًا هي هذا الشخص، ومع سائق معروف، وأحيانًا أحد الشباب من العائلة، أما الشرط غير المعلن لكنه معروف وبديهي لدرجة أن من المستحيل أن تخطيء إحدانا وتتجاوزه؛ وهو ألا يعلم والدي.

المرة التي أتذكرها بوضوح كانت بعد زواجي بفترة قصيرة، ذهبنا مع إخوتي وبنات خالتي وخالتي بالطبع، ومعنا ابنة عمي وربما أخوها لا أذكر، ورغم أنني ذهبت بموافقة زوجي إلا أن مشاعر الذنب لم تختفي، بل أصرت على البقاء معي أينما حللت. حضرنا حفلة واستمتعنا كثيرًا، ولأن المكان كان بعيدًا جدًا في منطقة ذهبان وهي منطقة تبعد عن جدة ما يقارب 50 كيلومتر، وتقع فيها درة العروس وهي مدينة شاليهات تقع على البحر، مع مطاعم ومرسى يخوت ومناطق ترفيهية متنوعة. المهم أنني وصلتُ بيتي مع شروق الشمس، أخرجتُ المفتاح وفتحت الباب بهدوء وما أن دخلت حتى فوجئت بأخ زوجي ينتظر خلف الباب بمكنسة يدوية طويلة وعلى أتم الاستعداد لضربي على رأسي، لكنه ما أن رأى وجهي حتى بدت عليه علامات الارتياح، فقد اعتقد أن لصًا كان يحاول فتح الباب، وأراد الانقضاض عليه بعصا المكنسة.

لا أعلم تحديدًا سبب مشاعر الذنب هذه، هل لأن المجتمع لم يكن يبارك حضور الحفلات، أم لأننا مضطرون لإخفاء الأمر، أم لأن في الأمر خطأ فعلاً. وهل سيختلف الأمر اليوم بعد أن أصبح حضور الحفلات ميزة اجتماعية؟

بين سائد ومهجور

بين التمسك بالقديم واعتناق الجديد آراء واتجاهات كثيرة، هل تكون الغلبة للجديد السائد، أم للقديم المهجور؟ أنت من تقرر المنتصر، وفقًا لقيمك واعتقاداتك وأفكارك وميولك. أما المشاعر فلها قوانين أخرى. أن تستفتِ قلبك وتحافظ على شعرة معاوية في نفس الوقت عملية معقدة وخطيرة، وتحتاج للأمانة والدقة وصفاء الذهن. في كتاب “مكتوب على الجبين” لجلال أمين يقول: كنت أعرض بعض المصطلحات العربية في الاقتصاد ليتم إقرارها في مجمع اللغة العربية، وذكرت مصطلح “الانكماش” كمقابل للمصطلح الإنجليزي “deflation” فإذا بأحد الأعضاء يهب معترضًا بشدة ويقول أن القواميس تقول: “كمش الحصان أي أسرع في سيره”، وهو عكس المعنى الذي أقوله وهو الركود والتباطؤ، فنظر الأستاذ طه حسين تجاه الرجل، وقال: “جبتها منين دي يا عباس؟” فإذا بالأستاذ حسين عباس صاحب كتاب الوافي في النحو وأحد أقدر الأساتذة اللغويين العرب الأحياء، يرفع كتابًا ضخمًا بيده ويشير بأن هذا هو ما يقوله كتاب “لسان العرب أو مختار الصحاح لا أذكر”، فتوجه طه حسين برأسه إلي وسأل: ” هل درجتم أنتم معشر الاقتصاديين على استخدام هذا المصطلح؟” قلت: نعم. فإذا بطه حسين يفاجيء الحضور بقوله: “طز يا عباس”، ثم قال بما معناه أنه بما أن العمل بالكلمة قد استقر فيجب على المجلس أن يوافق عليها. وهكذا قرأتُ بقية المصطلحات دون أن يزعجني أحد.” وكان قد ذكر القصة في سياق مناقشته لفكرة أن اللغة كائن حي لا بد أن يُسمح له بالتغير مع تغير الأحوال، وأن السماح باللفظ الجديد السائد قد يكون أكثر نفعًا من التمسك باللفظ القديم المهجور.

بعد غيمة ماجد الجنوبية، شاهدت حفلة محمد حماقي في جدة، وكان الجمهور يحفظ كلمات معظم أغاني حماقي تقريبًا، ويرددها بعلو صوته، ترى في الجمهور المحجبة والسافرة والمنقبة، وكلهم يغني باستمتاع وفرح، بعدها طلبتُ من ابنتي تشغيل فيديو لعبد المجيد عبد الله، وقلت لها بوضوح: اسمعي، لو جات حفلة لعبد المجيد اشتري التذاكر بدون ما تقولي لي. نظرت لي بعتب وهي تقول حتعصبي عليا بعدين، قلت معليش المهم انت اشتريها. قلت ذلك وأنا غير متأكدة من ردة فعلي، لأني أدرك أن رفضي متعلق بمسؤوليتي كأم، لا أريد أن تتعرض إحدانا لمشكلة أو موقف من أي نوع، وفي نفس الوقت أستمتع بمثل هذه الأنشطة، ويتصارع بداخلي هذان الأمران كلما رغبت أو ابنتي بالقيام بمغامرة ما. لكن حفلة عبد المجيد ليست أمرًا يمكنني التغاضي عنه، فهو الفنان الوحيد بنظري الذي يحبه جيلي والجيل الذي قبلي والجيل الذي بعدي، فهل سأحضر حفلته القادمة؟ أم ستركبني عفاريت المسؤولية والإحساس بالذنب فأفوّتها؟

أضف تعليق

بدء مدونة على ووردبريس.كوم. قالب: Baskerville 2 بواسطة Anders Noren.

أعلى ↑